فجأة أصبحنا جميعا مطالبين بحل فزورة فرضتها علينا أجهزة الدولة، والغريب أن كل المحللين السياسيين، والمراكز البحثية، وأجهزة المخابرات الأجنبية والإسرائيلية، -انشغلوا فى محاولات استنتاج حلول وسيناريوهات لتلك الفزورة المستعصية على الحل، طبعاً بالتأكيد أنتم تعرفون الفزورة وتعرفون أيضا الحل، فقد حان وقت تنفيذ خطة تنصيب السيد جمال مبارك رئيساً لمصر. وكأن المشكلة التى تؤرق كل الناس هى توريث حكم مصر لنجل الرئيس، الذى تم التمهيد له حزبياً ودستورياً وإعلامياً وسياسياً بما فيه الكفاية، ولكن الذى لا يدركه الكثيرون أن المشكلة ليست فى أن يرث جمال مبارك حكم مصر، ولكن المشكلة هى فيمن يرثون أقدار مصر وثرواتها، الذين أصبحنا جميعا فى قبضتهم وكأننا شروات مال يتوارثوننا جيلاً بعد جيل، وهم مجموعة المستفيدين من تنصيب جمال مبارك حاكماً على مصر فهم يساندونه بقوة حتى يرث الحكم ويقنعونه بأنهم وقفوا وراءه حتى مكنوه من السلطة ولابد أن يدفع لهم فاتورة هذه المساندة بتقديم مزيد من الامتيازات والعطايا والهبات، وكأنهم هم الباب العالى الذى منحه حق الجلوس على عرش مصر، فهكذا تبدأ اللعبة بتولى الحكم وتنتهى بالاستيلاء على كنوز مصر وعقل الرئيس الجديد، وهؤلاء هم الورثة الحقيقيون لحكم مصر، وهم عصابة المستفيدين من الحاكم سواء كان هذا الحاكم جمال مبارك أو جمال السادات أو جمال عبدالناصر. فالمشكلة ليست فيمن يحكم مصر، ولكن المشكلة فيمن يتحكم فى مصائر الناس فى مصر، وهؤلاء ليسوا واحداً أو اثنين أو ثلاثة، إنهم مماليك العصر الحديث، تماماً مثل دولتى المماليك الجراكسة والمماليك البحرية اللتين حكمتا مصر عقوداً من الزمان وأذاقتا فيها الشعب المصرى صنوفاً من الذل والهوان لا تخطر على بال بشر، حتى بعد أن سقطت مصر فى قبضة الدولة العثمانية اعتقد المصريون البسطاء أنهم تخلصوا من ظلم وبطش المماليك إلى الأبد، أو على أسوأ تقدير أنهم استبدلوا استبداد المماليك بظلم العثمانيين على سبيل التغيير فى نوعية وطريقة الاستبداد، ولكن سرعان ما تسلل المماليك من فساد الوالى العثمانى إلى الحكم، وتحكموا فى كل شىء بما فيه الوالى العثمانى نفسه الذى كان يقبل بأن يدفع له المماليك مبلغاً قطعياً يأخذ منه نصيبه ويرسل للباب العالى فى الأستانة المقرر على بر مصر من ضرائب ويترك للمماليك حق الاستفراد بالشعب المصرى أو حق «استكراد» الشعب المصرى، ليطلقوا أياديهم ليفعلوا بالمصريين الغلابة ما يشاءون، فيتسلطوا عليهم بلا رحمة ولا مغيث، وعندما يتعالى صراخ المصريين من شدة الظلم يرسل لهم الباب العالى والياً جديداً يتوسم فيه العدل ليرفع الظلم عن المصريين وما إن يستقر به المقام على عرش مصر إلا ويتسلل إليه المماليك ويطوقونه بالعطايا والهدايا والمداهنة والنفاق فلا يأخذ فى أيديهم «غلوة» ويسقط فى حبائلهم وما هى إلا أيام حتى يصبح كالخاتم فى أصابعهم الملوثة بدماء المصريين المساكين.. وهكذا. ولم تستطع مصر أن تنهض من كبوتها وتنطلق نحو مشروعها الحضارى وتلتحق بالعصور الحديثة إلا عندما تخلصت من هؤلاء المماليك الذين كانوا يعوقون تقدم مسيرتها دائما، وذلك عندما تولى محمد على باشا حكم مصر، وكان لديه مشروع توسعى لا يمكن أن يحققه إلا إذا تمت إدارة أصول البلاد بطريقة علمية بعيدا عن الطريقة البيومية المملوكية الهيمونية، التى كانت تدار بها البلاد قبل تولى محمد على حكم مصر، والتى تدار بها مصر الآن بواسطة المماليك الجدد، وبعد قليل اكتشف محمد على أنه لا سبيل للنهوض بمصر وتوجيه كل مواد الدولة نحو التحديث والتنمية الفعلية إلا بعد إزاحة المماليك والتخلص منهم نهائيا، وليس بطردهم فهم يفرون ويعودون بثوب جديد، ولا بإبعادهم عن السلطة فهم يتوارون قليلاً ويتسللون من جديد إلى مراكز اتخاذ القرار، لذلك قرر أن يذبحهم جميعاً ويستريح منهم ويريح المصريين ولو لبعض الوقت قبل أن يولد غيرهم، فالمماليك نبت شيطانى يخرج من برك ومستنقعات الفساد، فكانت مذبحة القلعة، وبعدها بدأت الحياة تبتسم لمصر. والآن ونحن ليس لدينا محمد على لكى يذبح لنا المماليك الجدد فليس أمامنا من ضمانات لكى نلتحق بالأمم المتحضرة سوى الحصول على حريتنا وتحقيق الديمقراطية الحقيقية، واحترام الحقوق العامة ومعاملة المصريين على أنهم مواطنون لا رعايا، وإدارة موارد الدولة لصالح مصر والمصريين، وليس لصالح مجموعة من المتنفذين، الذين استولوا على كل مؤسسات الدولة وسخروها لمصالحهم الخاصة فى ظل غياب تام للرقابة والمساءلة، وإذا لم يتخلص جمال مبارك «أو أى رئيس يتولى حكم مصر» من المماليك أولاً ويضع الديمقراطية الحقيقية موضع التنفيذ فلن تقوم لمصر قائمة.