فى مؤتمر صحفى عقده فى عمان يوم الأحد الماضى «فاروق القدومى» - أمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح، أحد الآباء المؤسسين لها، أعلن ما وصفه بأنه صورة لمحضر اجتماع سلمه الرئيس الفلسطينى الراحل «ياسر عرفات» إليه، يتضمن وقائع لقاء ضم رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق «أرييل شارون» ورئيس الوزراء الفلسطينى آنذاك، رئيس السلطة الحالى «محمود عباس أبومازن» و«محمد دحلان» مسؤول قوات الأمن الوقائى بها، وضباطاً من المخابرات الأمريكية، جرى خلاله التخطيط لاغتيال كل من رئيس حركة فتح ياسر عرفات، ورئيس حركة حماس الشيخ أحمد ياسين، ومن أقطابها آنذاك د. عبدالعزيز الرنتيسى فضلا عن أبوعلى مصطفى وأحمد سعدات من قادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وكان طبيعيا أن تثير وثيقة بهذه الخطورة، تصدر عن شخص بمكانة «أبواللطف» وتتعلق بالتآمر مع العدو على حياة فريق من قادة حركة التحرر الوطنى الفلسطينى بمختلف فصائلها، ردود أفعال عنيفة، ساهم فيها تبنى «قناة الجزيرة» للوثيقة، وتسليطها الضوء عليها، وهو ما استند إليه القرار الذى أصدره وزير الإعلام فى حكومة تسيير الأعمال فى «رام الله» بإغلاق مكتب القناة فى فلسطين لحين صدور الحكم النهائى فى قضية القذف والسب ونشر الأخبار الكاذبة، التى قررت إقامتها ضدها.. فضلا عن عدم حياديتها.. وردت عليه قناة «الجزيرة» ببيان قالت فيه إنها كانت تقوم بواجبها المهنى فى إعلام المشاهدين بالحقيقة، وإن إغلاق مكتبها فى «رام الله» هو عدوان على حرية الإعلام.. لتكثف على امتداد الأسبوع الماضى كله، البث عن الموضوع، وتعطيه الصدارة فى كل نشراتها الإخبارية، وكأنه أهم أخبار العالم. وبصرف النظر عن ردود الأفعال الأخرى، من بينها ربط المسؤولين فى «فتح» بين إذاعة أبواللطف للوثيقة فى أعقاب خذلان مركزيتها بأغلبية كاسحة لاقتراحه بعقد مؤتمرها السادس - فى بداية الشهر القادم - خارج الأرض المحتلة، وانحيازها لاقتراح «أبومازن» عقده فى «رام الله» وبيانات التخوين والشماتة التى تبادلتها الفصائل الفلسطينية، فيما بينها وحالة الإحباط التى سادت الشارعين الفلسطينى والعربى تجاه ما اعتبره كثيرون مسخرة سياسية تصرف الأنظار عن القضايا المحورية التى تتعلق بمصالح الشعب الفلسطينى، فإننى أتوقف - بصرف النظر عن ذلك كله - عند ملاحظتين مهنييتين فاتتا على كل المشتبكين فى العراك حول وثيقة «أبواللطف». تتعلق الأولى بالقواعد المهنية للتعامل مع الوثائق، سواء كان من يتعامل معها مؤرخا أو سياسيًا أو إعلاميًا أو محققا قضائيًا - وهو تعامل لابد - كقاعدة مهنية أساسية أن يبدأ بالتثبت من صحة الوثيقة، قبل الاعتماد عليها فى تقرير حقيقة تاريخية، أو سياسية، أو نشرها أو حتى التعليق عليها، وهو ما يتطلب أن يكون لها مصدر معلوم، وعليها ما يثبت صدورها من هذا المصدر، كالتوقيعات والأختام والتواريخ، ومن التثبت أنها بخط صاحبها إذا كانت مكتوبة بخط اليد، واللجوء إلى الخبراء فى هذه الأمور كلها إذا تطلب الأمر، ليبدأ المؤرخ بعد ذلك فى نقد محتوى الوثيقة من حيث اتساق أجزائها مع بعضها البعض، ومع السياق العام للحوادث، ويقارنها بغيرها من الوثائق... إلخ. وفى هذا السياق تفتقد الوثيقة التى أذاعها «أبواللطف» إلى أركان أساسية، من تاريخ الاجتماع الذى يقال إنها محضر لوقائعه، إلى تعريف بالمصدر الأساسى لها، الذى أعطاها لعرفات، فسلمها إلى القدومى.. خاصة أن النص يكشف عن أنه «مضبطة» تفرغ تسجيلا صوتيا لوقائع الاجتماع، وتنسب لكل واحد من الحاضرين فيه - وهم شارون ودحلان وأبومازن وطرف أمريكى - كلاما على لسانه.. فمن الذى سجل.. ثم فرغ هذه المضبطة. ثم: كيف تصل وثيقة بهذه الخطورة إلى «ياسر عرفات» فلا يعمل على إزاحة «دحلان» و«عباس» ويأمر بقتلهما على الفور، وكيف يكتفى بإعطائها إلى «أبواللطف» ويهمس فى أذنه: وصيتك يا «فاروق» يا أخويا تأخذ بالك من «زهوة» و«أم زهوة»؟.. ولماذا اكتفى «أبواللطف» بوضع الوثيقة فى محفظته ولم يقم حالا بالا بواجبه، فيجمع مركزية فتح ويعرض عليها الوثيقة، ويفضح القتلة قبل أن ينفذوا مؤامرتهم، وكأن له مصلحة فى إتمام المؤامرة، أو كأنه شريك فيها. ثم إن مضمون الوثيقة نفسه - بافتراض صحتها وفيما عدا سطوراً غير واضحة ملتبسة المعنى - لا يدل على ما استنتجه منها «أبواللطف» ف «شارون» هو الذى يطالب بالقتل ويصر عليه ويتوعد بالقيام به، بينما معظم، ما ورد على لسان أبومازن، و«دحلان» غالبا - هو التحذير من ذلك لأنه سيؤدى إلى فوضى عارمة، والإلحاح على مطالبته بوقف العنف الذى تمارسه حكومته ضد فصائل المقاومة، لأن ذلك سيعقد مسار التسوية، وأن باستطاعتهم حصار نفوذ ما يعتبرانه عناصر متشددة، عبر العمل السياسى والصراع الحزبى. ثم: أليس من الوارد أن تكون إسرائيل هى التى اصطنعت الوثيقة وسربتها للزعيم الراحل للوقيعة بين قادة حركة فتح، ولبذر بذور الشقاق بين الفصائل الفلسطينية؟ وفى هذا السياق يأتى الخطأ المهنى الجسيم الذى وقعت فيه «قناة الجزيرة» التى سلطت الأضواء على الوثيقة من دون أن تعنى هى نفسها بالتثبت من صحتها، قبل أن تحولها إلى خبر رئيسى فى كل نشراتها على امتداد خمسة أيام، أو تعنى بطرح أسئلة مهنية محايدة على «أبواللطف» حول مصدر الوثيقة وتاريخها.. وحول السبب الذى دفعه للصمت على مؤامرة بهذا الحجم، ولماذا لم يحل دونها.. أو تستضيف من يقرأ مضمون الوثيقة قراءة نقدية محايدة، تكشف عن تناقض، ورد فيها مع استخلصه منها القدومى، وظلت تروج له. ثم: ألم يكن من الحصافة، ألا تضع «الجزيرة» نفسها موضع الشبهة، وهى تعلم اتهامات السلطة المتوالية لها، بأنها تنحاز عادة إلى خصوم «فتح» بحكم الانتماءات السياسية والأيديولوجية للعاملين فيها.. وبحكم أن الدولة التى تنفق عليها هى من أقطاب معسكر الممانعة! وبالمناسبة: لماذا اختفى صوت جماعتنا الذين فى الممانعة! لعل المانع «خيرن» أو «أوبامتن»!