بناء على تحريض من أحد أصدقائى شمرت أكمامى وتوكلت على الله ودخلت على موقع اليوتيوب أبحث فى مجموعة كبيرة من الأفلام القصيرة لشباب مصرى يعيدون تأويل الأغنيات المعروفة تأويلا سياسيا. استوقفنى مثلا كليب بعنوان «رسالة شاب مخنوق من مصر» حيث يتخذ مخرجه من إحدى أغنيات محمد منير العاطفية خلفية صوتية له بينما الفيلم القصير يصور موقف شاب مصرى من مصر. فالأغنية التى تقول «بتبعدينى عن حياتك بالملل/ وخليتينى أقول خلاص مفيش أمل» تصور شابا مصريا يمشى فى صحراء جرداء مكتوب على رمالها «مصر الحضارة». ورغم أننا نرى الشاب فى اللقطات المتتابعة يتحرك فى الشارع وحوله وسائل مواصلات إلا أنه يبدو كما لو كان يتحرك وحيدا تماما فيما يشبه الصحراء الجرداء التى نراها فى أولى لقطات الفيلم. تتوالى اللقطات للشاب التائه اليائس بينما تتردد كلمات الأغنية التى فقدت مسحتها العاطفية تماما وتلبسها عفريت السياسة «معرفش ليه بتعذبينى/ لو باجرحك امشى وسيبينى/ ساكتة الحياة بينك وبينى/ إحساسى بيكى راح أكيد مش محتمل». شاهدت عددا كبيرا من الأفلام القصيرة التى تقدم تأويلات مختلفة لأغنيات معروفة وتبين لى أن ما نعتقده فى أنفسنا كمصريين خانعين كسالى لا نرغب فى الإقدام على ما يغير من واقعنا لابد أن نضعه محل تساؤل. ولابد أن ندرك أن هناك أجيالا جديدة أخذت تتحدث لغة خاصة بها وتفرز معارضة سياسية لم يعرفها المشهد السياسى إلا مؤخرا مع تلك الانتفاضة التكنولوجية الحرة التى تتيح لكل الناس حتى الأطفال أن يخرجوا على مشاهدى موقع اليوتيوب بآرائهم وفنهم. والنوع الجديد من المعارضة الذى يطرحه اليوتيوب يعتمد ليس فقط على إخراج تلك الأفلام القصيرة التى تعلن عن معارضتها للنظام والواقع السياسى والاجتماعى الحالى فى مصر ولكنها أيضا تقوم بتوثيق شديد الأهمية لنضال فئات متعددة. فقد جعلنى أحد هذه الأفلام أستعيد أزمة اعتصام موظفى الضرائب العقارية: تابعت تفاصيل الأيام الطويلة فى الشارع فى برد الشتاء، رأيت وجوه الرجال الذين تقاسموا كسرات الخبز مع أطفالهم ورأيت النساء المعتصمات بالصبر على بلاء الحكومة. هل يصبح اليوتيوب ذاكرة المصريين؟ وهناك نوع من الكليبات يجمع بين التأويل السياسى لأغنية والجانب التوثيقى للحالة المصرية مثل أحد الكليبات التى تتخذ من أغنية وجيه عزيز وعلى سلامة «قول معايا» خلفية صوتية لها بينما الكليب المعنون «هى عيشة ولا موتة!» يبدأ بعلم مصر مرفرف ومن ورائه بحر أزرق ثم تتوالى صور تبدأ بمجموعة أطفال فقراء لكنهم مبتسمون من خلال نافذة خشبية متهالكة، صورة لإسراء عبدالفتاح، إسراء تحتضن أمها ومن خلفهما سيارة الأمن المركزى وجنوده، ثم صور عديدة لمظاهرات «كفاية» حيث يعلو صوت المصريين صارخا برفض التوريث والاستبداد وهراوات الأمن تنهال على أجسادنا جميعا وأيادى المأجورين تمزق ملابس النساء. وبينما تتوالى صور المظاهرات وصور جثث الشباب الغارق على سواحل المتوسط فى محاولات يائسة للهروب من جحيم الوطن، يتردد صوت وجيه عزيز «قول معايا قول بجد/ هى عيشة ولا موتة ولا فوتة فى حارة سد/ قول يا عم/ قول يا هم». أثارت لدىّ تلك المشاهدات عدة أسئلة: كيف نقيّم تلك التجربة بالشكل الذى تستحقه؟ هل يمكن ربط تلك الأفلام بما هو معول عليها من نتائج فورية تتعلق بالإصلاح السياسى؟! (لا أعتقد هذا لأن هذا النوع من المعارضة طويل الأمد). إنها تبشير بواقع جديد، واقع لغته مختلفة وخطابه مختلف، واقع يعكس درجة وعى أعلى مما نعتقد فى أنفسنا. قد يقلل البعض من شأن الظاهرة بحكم ضآلة عدد مستخدمى الإنترنت بالمقارنة بجموع المصريين، ولكنها ظاهرة دالة وممثلة لطبقات أخرى لا علاقة لها بالإنترنت. لقد أكد لى إبحارى فى اليوتيوب أنه لا يمكن قتل روح شعب، قد تستطيع قهره واغتصابه، لكن لا يمكنك امتلاك روحه لأن من يملكها أعلى وأقدر منك أيها العبد الفقير الذى لا تعترف بفقرك أمام الله.