هذا الكتاب البديع يتناول ذلك الموضوع الدقيق الحساس، الجرح الدامى فى قلب الإسلام، والحرج التاريخى فى ضمير المسلمين. إنه الخلاف السياسى بين الصحابة. كيف يتعامل المسلم مع هذه المعضلة؟، أيلتمس الأعذار للكل - كما يأمره المنهج السلفى – حد الترضّى عن القاتل والمقتول!، أم يجعل التاريخ – كالرواية الشيعية - مؤامرة مستمرة وانقلابا حدث بعد وفاة الرسول!، أم غير هذا وذاك: مخرج يحفظ لنا حرمة الوعى وكرامة التاريخ؟ محمد المختار الشنقيطى فعلها، ذلك الباحث الفذ الذى استطاع الوصول إلى منهج متوازن فى التعاطى مع الروايتين. لم يتعامل مع الفتنة (كحدوتة) أو يعطى أحكاما نهائية، وإنما أعطانا الأدوات المنهجية التى تجعلنا نستطيع الحكم بأنفسنا، يعلمنا الصيد ولا يعطينا سمكة، يدربنا على النقد واستخدام نعمة الله فى العقل الذى كبته الفريقان. «الخلافات السياسية بين الصحابة» راءة واعية لخلافات الأكابر، يلتزم الأدب ولا يستبيح الوعى، ولا يتكلف التبريرات غير المنطقية أو يلتمس الأعذار للكل أو يساوى بين القاتل والمقتول. يصطحب معه فضل الصحابة، ليس بالغلو فيهم، وإنما بالتزام قواعد الشرع الذى جعل للسابقة فضلا. فإذا كان الرسول قد شهد لبعضهم بالجنة فذلك لا يعنى العصمة أو الحرج فى تسمية الخطأ باسمه دون مواربة، وإنما نشهد لهم أيضا بالبشارة المتضمنة المغفرة فى حساب الآخرة. أهم شىء ألا يلتبس الإسلام بأعمال البشر. فجيل الصحابة وإن بلغ فى مجمله غاية الكمال البشرى فلا بد أن نعترف بحدود الكمال البشرى ولا نستغرب حالات من الضعف، وهكذا البشر: ضعيف مهما قوى، ناقص مهما كمل، إلا من عصمه الله من الأنبياء والمرسلين. المهم أن نبتعد عن تكفيرهم أو اتهامهم بالنفاق والارتداد كما درج جهلاء الشيعة مع أشخاص كانت بينهم وبين الإمام على خلافات سياسية أفضت إلى القتال (كمعاوية وعمرو بن العاص)، فهؤلاء مؤمنون ظلوا على إيمانهم منذ دخلوا الإسلام والأخطاء التى ارتكبوها لا تنفى صفة الإيمان عنهم. والصحابة أنفسهم كانوا أبعد الناس عن تحويل الخلافات السياسية إلى أمور اعتقادية فحين سئل على بن أبى طالب عن أهل الجمل قال: إخواننا بغوا علينا. فلم يصبغ الصحابة خلافاتهم السياسية بلغة الكفر والإيمان ولم يخلطوا بين الوحى والتاريخ. لا بد أيضا أن نميز بين السابقين وغيرهم فمن حسن الفقه التأول لقادة جيش الجمل ( مثل عائشة وطلحة والزبير) لسابقتهم وتزكية الرسول لهم مما يجعل حمل قتالهم على الطموح الشخصى أمرا لا يطاق!!، كما أنهم انتقلوا إلى رحاب الله دون الحصول على ثمرة دنيوية ومن بقى منهم على قيد الحياة كعائشة ندمت أشد الندم، عكس المكاسب الدنيوية لقادة جيش صفين( كمعاوية وعمرو) الذين ليست لهم نفس السابقة والمكانة، وقد جنوا ثمرة قتالهم ملكا ورثوه إلى أبنائهم. لا بد أن ندرك الطبيعة المركبة للفتنة التى لا يكفى لتفسيرها المؤامرة الخارجية ( عبد الله بن سبأ) ونبتعد عن التبسيط. فالشيعة اقتصروا على جانب الشهوة فى الفتنة ففسروا به كل شىء واتهموا نيات الجميع، وبعض أهل السنة غالى فى التبرير حتى بلغ الأمر بابن العربى أن يتأول لقتلة الحسين!! «الخلافات السياسية بين الصحابة» رسالة تنتمى إلى الفقه السياسى أكثر مما تنتمى إلى علم التاريخ، تجتهد فى البحث والتنقيب عن حقيقة ما حدث فى صدر الإسلام، ودرس مهم لكل من أراد التمييز بين المقدس وغير المقدس، بين المبدأ والشخص، والوحى والتاريخ.