أعجبنى جداً مقال للمفكر والأكاديمى المتميز الدكتور مأمون فندى بصحيفة «المصرى اليوم» منذ عدة أيام تحت عنوان «دق العصافير»، حيث أثار فيه قضية مهمة، شاءت الظروف أن أشاهد وأسمع وأقرأ أمثلة حية لها فى غضون الأيام القليلة الماضية. القضية التى أثارها د. مأمون هى بنص كلماته فى أول مقاله «هل يستطيع الفرد أن يكون قادراً على التعبير عن آرائه السرية فى العلن، ويتحمل المواجهة ودفع الثمن.. أم أن قدر العربى أن يكون ضمن عقلية القطيع فى المجال العام، وفردياً إلى أبعد الحدود فى المجال الخاص؟».. بمعنى آخر لماذا يصبح الواحد منا بشراً سوياً، له آراؤه الخاصة ومشاعره البشرية العادية فقط عندما ينزل من على خشبة المسرح الاجتماعى، ويكون عكس ذلك تماماً طالما بقى فى موقعه أمام الشاشات وعلى خشبة المسرح؟ ففى الأيام السابقة لقراءتى هذا المقال شاهدت وسمعت وقرأت عدة لقاءات إعلامية أكدت كلها صحة ما وصل إليه دكتور مأمون بل ربما أكثر.. فقد شاهدت برنامجاً على إحدى الفضائيات الشهيرة، ويدير الحوار فيه إعلامى قدير أثار موضوعاً تصوره هو الأهم فى هذه المرحلة من تطورنا السياسى، وهو موضوع تحديد مده الرئاسة بما لا يزيد على مدتين.. وكان ذلك فى معرض الحديث عن خبر نشرته صحيفة «الشروق» ادعت فيه أن هناك نية لاجتماع الهيئة العليا للحزب الوطنى الحاكم قريباً لتسمية مرشح الحزب للرئاسة للفترة القادمة، وأنه سيكون فى الغالب السيد جمال مبارك.. فعلى الفور حدثت مداخلة من أحد أقطاب الحزب الوطنى، بل أحد أركان النظام الأساسية فنفى نفياً قاطعاً هذا الخبر، وأكد أنه لا أساس له من الصحة، وليس هناك مجرد التفكير فى هذا الأمر.. المهم أن مقدم البرنامج استغل فرصة هذه المداخلة وسأله عن رأيه فى موضوع تحديد مده الرئاسة بمدتين فقط، ويمكن أن تكون المدة الواحدة منهما سبع سنوات، فكانت إجابة المسؤول الكبير هى المثل الحى لما وصف به الدكتور مأمون حال تلك الفئة من الناس الذين يبدون على مسرح الأحداث فرساناً ومغاوير لا يشق لهم غبار، وهم فى الحقيقة غير قادرين على أن يكونوا أفراداً أحراراً لهم آراؤهم التى يمكن أن يعبروا عنها بحرية.. فراح سيادته يلف ويدور حول السؤال ويلعب بالكلمات والعبارات.. فتاره يتحدث عن إمكانية حدوث هذا مستقبلاً.. وتارة أخرى يتحدث عن معقولية الرأى المحبذ لاستمرار الرئيس مدى الحياة طالما يرغب الشعب فى ذلك.. وفى العموم فإنك لا تستطيع معه صبراً ولا تفهم منه رأياً.. وبالتالى فهو يحافظ على أهم ما فى حياته وأبقاه فى أعلى المناصب طيلة أكثر من ثلث قرن من الزمان، وهو ألا تكون له الحرية فى إبداء رأيه، حتى تكون له حرية أخرى، وهى حرية تطويع رأيه لما سيكون عليه رأى سيده وزعيمه! كذلك حملت الأخبار تكهنات عن قرب حل مجلس الشعب، واحتل هذا الموضوع مانشيتات العديد من الصحف. وكان من الطبيعى أن يتم سؤال أكبر مسؤول فى هذا المجلس عن هذا الموضوع وهو أيضاً من نفس نوعية كبار المسؤولين فى هذه الدولة الذين يحرصون كل الحرص على ألا تكون لهم آراء واضحة ومختلفة فى العلن.. فنفهم من إجاباته أنه لا حل لمجلس الشعب الحالى فى وقت قريب، حيث إنه ليس هناك ما يستدعى ذلك - على حد قوله - ولكنه فى نفس الوقت يمكن أن يكون هناك حل للمجلس من جانب الرئيس الذى يمكن أن يرى أشياء لا نراها نحن.. هكذا قال! وهكذا يحتفظ بالقدرة على تطويع رأيه انتظاراً لما سوف يكون عليه رأى السيد الكبير.. ويحافظ بالتالى على موقفه على مسرح الأحداث وأمام الشاشات! الأمثلة لا تعد ولا تحصى لأمثال هؤلاء المسؤولين فى قيادات الحزب الوطنى.. بل أصبح هؤلاء الذين باعوا حريتهم فى إبداء الرأى والتعبير عما يعتقدونه بالفعل فى مقابل مناصب ومنافع، هم الفئة التى تبحث الدولة الأمنية التى نعيش في ظلالها، عن القيادات بينها، سواء فى الحزب أو الحكومة أو الصحافة أو الجامعات وغيرها.. سمعت أن أحد كبراء النظام، الذى كان يتولى منصباً مهماً فى الحزب الحاكم، كانوا يأخذون رأيه منذ عدة أعوام فى ترشيح أحد الوجوه الواعدة ليتولى منصباً مهماً فى إحدى الصحف القومية، فكان رأيه بالحرف الواحد: «إنه فرس لا يمكن ركوبه»، وبالتالى تم صرف النظر عنه! إنها نفس نظرية العصفور التى طرحها د. مأمون فندى، والتى تتلخص فى اعتراضه الشديد على المثل الشعبى الشهير «عصفور فى اليد أفضل من عشرة على الشجرة»، فهو ينظر إلى الموضوع نظرة فلسفية جميلة، حيث إنه يرى أن العصافير التى على الشجرة هى حرة طليقة يمكن أن تغرد، وأن تطير إلى أعلى وتأخذ معها أسراباً وأسراباً.. أما ذلك الذى فى اليد فإنه مثل هؤلاء المسؤولين الذين يحكموننا ويتولون قيادتنا جيلاً بعد جيل.. سجناء أيادى النظام المتسلط، وأسرى حب السلطة وملذاتها.. إنهم ليسوا فرساً قوية جامحة تستعصى على الركوب، ولا عصافير حرة مغردة تخفق لتغريدها القلوب.. إنهم لا يصلحون إلا لقيادة - على رأى د. مأمون فندى، وكما يقول التعبير الشعبى - شعب «داقق عصافير».