الذين تابعوا زيارة الرئيس الروسى «ميدفيديف» إلى القاهرة، ربما لم ينتبهوا إلى أنه جاء ليخاطب العالم العربى، من الجامعة العربية، بمثل ما خاطب «أوباما» المسلمين من جامعة القاهرة.. وإنه قال إن بلاده فيها 20 مليون مسلم، بمثل ما قال «أوباما» إنه لا شىء يجعل بلاده على عداء مع العالم الإسلامى، فكلاهما أراد أن يحجز مكاناً، ثم مكانة، فى القاهرة. وقد يكون مهماً، أن يجىء «ميدفيديف» إلى بلدنا، باعتبار أن هذه أول زيارة له، إلى دولة عربية، أو أفريقية، منذ أن أصبح رئيساً قبل عام تقريباً، وقد يكون مهماً أيضاً، أن يكون قد جاء إلى سفارة بلاده فى الدقى يزورها.. ولكن الأهم ليس كيف جاء إلى بلدنا، ولا إلى سفارة بلده.. وإنما كيف جاء إلى السلطة فى موسكو.. ثم يبقى الأهم أيضاً، كيف خرج «بوتين» من السلطة هناك، فى اللحظة ذاتها، التى جاء فيها ميدفيديف! إن «بوتين» كان رئيساً فى مكان «ميدفيديف» إلى عدة شهور مضت، وقد بقى فى كرسى الرئاسة ثمانية أعوام متصلة، وكانت سنواته الثمانى فرصة لانتشال روسيا من مصير بائس كانت تنحدر إليه، وقد وصل الانحدار إلى حد أن بعض ضباط وجنود الجيش كانوا يبيعون قطع السلاح ليعيشوا، ولكن الرجل استطاع فى 8 سنوات أن يصعد ببلده من القاع إلى القمة، وأن يؤسس لاقتصاد قومى، وأن يجعل تجربته مثار دهشة وإعجاب! وفجأة، اكتشف «بوتين» أن عليه أن يغادر قصر الرئاسة، رغم رغبته فى أن يبقى.. فالدستور كان ولا يزال يمنعه، ويمنع غيره، من البقاء أكثر من ثمانى سنوات، ولم يكن هناك مفر من خروجه، وقد خرج فعلاً، ولكنه قبل أن يخرج أراد أن يضمن العودة إلى الرئاسة مرة أخرى، وحدث هناك شىء ليس له مثيل فى أى عاصمة أخرى، هو أن الرئيس بوتين جاء برئيس وزرائه ميدفيديف، ليصبح رئيساً فى مكانه، وأخذ بوتين عدة خطوات إلى الوراء، ليصبح رئيساً للوزراء بدلاً من ميدفيديف!.. وفى لحظة، أصبح الرئيس مرؤوساً، والمرؤوس رئيساً، ونام ميدفيديف وهو رئيس وزراء، ثم قام فى الصباح وهو رئيس، وحصل العكس مع بوتين الذى احتفظ بمخصصات كثيرة من أيام الرئاسة، وأولها طائرة الرئاسة التى يطير بها إلى أرجاء العالم! ولا أحد يعرف كيف يتعامل الاثنان معاً، فى الوقت الحالى، ولا كيف ينظر كلاهما إلى الآخر، ولا كيف يتحسب كلاهما من يوم ربما يأتى ليعود كل واحد إلى ما كان عليه، ضمن عملية تبادل مواقع فريدة من نوعها، ولكن الذى نعرفه أن بوتين كان فى إمكانه تعديل الدستور، ليبقى إلى الأبد، ولكنه فضل أن يحترم نفسه، ووطنه، ومواطنيه، ودستور بلده، بل ورئيس وزرائه، بأن وضع الجميع فوق رأسه، وخرج راضياً، ثم كان الأهم من الرضا، هو التأسيس للاحترام تجاه الدستور، كقيمة! وما نحن فيه الآن من تعاسة، على كل مستوى، سببه الأساسى أن دستورنا لم يحترمه أحد!