صبىٌّ صغير. اكتشف مبكرًا أن الخطَّ واللونَ طائعان بين يديه. واكتشف المحيطون أن ريشته الصغيرةَ تقولَ الكثير. حثّوه على دخول كلية الفنون، فهذا منطق الأمور. نظر حوله: إلى معلمى الرسم، يجلسون فى الفصل يقرأون الصحفَ فيما الصغارُ لاهون عن كراسات الرسم، ثم نظر إلى أكاديميى كليّات الفنون، يُنظّرون للفنّ، لأن فرشاتهم جفّت من اللون، فارتعب. هو لا يريد التنظير! يريد اللوحةَ بيضاءَ وباليتةَ لون، ثم ريشةً تغازلُ هذه وتلك. لذا، غافلَ الجميعَ ودخلَ كلية الهندسة، قسم الميكانيكا، مُضحيًّا بدراسة الفن! فالفنُّ ليس على مقاعد الدرس، بل فى مكان آخر. ظل يسرق من مكتبة أخيه كتاب «تشريح الفن» ليقف منه على إعجازية تكوين الجسد البشرى ونسبه الذهبية المدهشة. ثم انطلقَ، بعد تخرجه فى الهندسة، إلى ألمانيا ركضًا وراء ريشته التى لا تستقرُّ فى مكان. وهناك، بدأ رحلته الحقيقية فى ميادين برلين. يرسمُ الوجوهَ والطبيعةَ الصامتة ويطاردُ الفنانين وآثارَهم. على رأسهم مودليانى، الفنان الإيطالى العدمى الذى أتلفَ غبارُ النحت رئتيه، فمات مصْدورًا. ذلك الذى احترف رسم وجوه النساء، وحينما أحبَّ، رسمَ وجهَ حبيبته دون عينين! قائلا: «حينما أعرفُك جيدًّا، سأرسمُ عينيك!» هذا الإيطالىّ المجنون فتَنَ رسامَنا المصرىَّ العالمىّ فسعى وراء لوحاته ينهلُ منها الفنَّ وجنونَه. ليعودَ بعد ذلك إلى مصرَ الوطن، مُحَمّلا برسالتين. رسالته نحو فنّه الخاص، ورسالة أخرى نحو تلامذته، الذين يذهبون إلى مرسمه لكى يتعلموا جوهرَ الفنّ العميق، الذى لا تقدمه الجامعات ولا النظريات. اسمه أحمد الجناينى. مفتونٌ بمصرَ الفرعونيةِ حدَّ الولع، شأنَ كلِّ مثقف حقيقى. وقف فى المتحف المصرى ببرلين أمام النسخةِ الأصلية، الوحيدة بالعالم، لتمثال نفرتيتى. صناديقُ زجاجيةٌ مصفّحة، صندوقٌ داخلَ صندوق، وحارسان مدجّجان بالسلاح لا يغفلان عن مليكة مصر الفاتنة، إحدى فرائد البشرية. الألمانُ يعرفون جيدًّا عِظَم ما يملكون، لذلك رفضوا رجاءَ الرئيس السادات بزيارتها مصرَ. قالوا له: «نثقُ أنكَ ستُعيدها لنا، لكننا نخافُ شعبَ مصر، لربما رفض!» (ونشكرهم على حُسن ظنهم بنا! ليتنا حريصين هكذا على كنوزنا كما يظنون!) وقف الجناينى يتأملُ، بعين الفنان، ذلك السِّحرَ المصريَّ الفريد: عينان دوختا العالم، وعنقٌ دقيقٌ يحملُ أجمل رؤوس النساء. فى تلك اللحظة قرر أن تكون ابنته الأولى نفرتيتى،ثم أعقبتها: هاميس، إيزيس، نفرتارى. هنَّ بناتُه الأربع. وفضلاً عن كونه فنانًا رفيعَ الطراز، فهو حكّاءٌ عظيم. يعرفُ عنه ذلك كلُّ أصدقائه. حكى لنا الكثيرَ عن نوادره فى برلين. ويعدُّ كتابًا، وشيك الصدور، عنوانه «حين هربتْ عارياتُ مودليانى» يقصُّ فيه حكاياه مع الفنِّ والحياةِ والنَّزَق. كان يرسمُ فى ميادين برلين، كتمرين يومىّ، ولكى يوفر تكاليفَ إقامته هناك، وفى إحدى الليالى كان قد تعب من الرسم وهمَّ بلملمة أدواته، فإذا بثلاثِ فتيات ألمانيات رُحن يرجونه أن يرسمهن. اعتذرَ مُتعلِّلا بالتعب، وألحفن فى الرجاء. فتوسّل مكرَ الفنان، ودهاءَ الفلاح المصرىّ. أجلسهن متجاورات، وراح يتأمل ملامحهن بعينه المصرية الباحثة عن الجمال. وكلٌّ منهن تُمنّى النفسَ بلوحة تصنعها ريشةٌ مصرية. وبعد الانتهاء، تفاجأن بأن اللوحاتِ الثلاثَ قد تقلصن فى لوحةٍ واحدةٍ لفتاةٍ واحدة: لها عينا الأولى، وشَعرُ الثانية، وفمُ وأنفُ الثالثة! فطرن فرحًا، إذْ لوحةٌ واحدة، مجنونة، جمعتهن معًا. أما أرقى حكاياته التى لم يحكها، لكننا شاهدناها حيّةً نافذةً، فكانت فى معرضه الأخير «إنسانيات» بأتيليه القاهرة 2007. سأله منظمو المعرض أن يختارَ شخصيةً عامةً تقصُّ الشريط. فإذا به يقول: «لم يساندنى، طيلةَ مشوار كفاحى الفنىّ، وزيرٌ ولا غفير. لم يصنعنى أحدٌ ليستحق شرفَ قصِّ شريط معرضى!» ثم أشار إلى سيدة تقف على استحياء فى ركن معتم بنهاية المعرض قائلاً: «هذه السيدةُ هى التى ساندتنى وتحملت نَزَقى وجنونى، هذه السيدةُ عليها الآن أن تتقدمَ لتقصَّ الشريط.» أما تلك السيدةُ، فلم تكن إلا زينب مجاهد. زوجته. (طالع إحدى لوحات الجناينى بالصفحة الأخيرة- بورتريه شخصى). [email protected]