كتبت فى السابق داعيًا إلى تأسيس «مركز المؤرخين الجدد فى مصر» وهنا أواصل. قال لى الأستاذ جمال بدوى رحمه الله: لماذا لا نلتقى فى بسيون ونتحدث فى هذا الموضوع.. إنه موضوع طويل ويحتاج إلى أمسية بسيونية رائعة.. ذهبت إلى بلدياتى المؤرخ الراحل فى صيف ذلك العام لأسأل وأسمع.. قال لى الأستاذ جمال بدوى: اسمع يا أحمد.. علينا أن نعترف ونعتذر. قلت له: نعترف بماذا؟ ونعتذر لمن؟.. قال لى: نعترف بأننا أخطأنا فى حق هذا الوطن، وبالتالى نعتذر للشعب.. قلت له: وماذا تعنى بكلمة «علينا».. هل تقصد نحن الاثنين - أنت وأنا - اللذين عليهما أن يعتذرا للشعب المصرى، قال: نعم.. علينا فى مركز بسيون أن نعتذر.. لقد أخطأت بسيون فى حق بلادنا!.. كان حديث الأستاذ جمال بدوى يسير مناصفة بين الجد والضحك، فضحكت من النصف الساخر، وسألت عن النصف الآخر.. ما القصة يا أستاذنا؟ قال جمال بدوى: أنت تعرف قرية صالحجر مركز بسيون محافظة الغربية.. وأنا أعرف أنها تضم أحد فروع عائلتك. قلت: نعم، قال: إن صالحجر كانت فى العصر الفرعونى عاصمة لمصر كلها، كانت صالحجر تدعى «سايس» وكانت عاصمة مصر لفترة طويلة من زمن الفراعنة، وكان الملك أبسماتيك أحد ملوك هذه الحقبة، وقد رأى أبسماتيك أن المصريين «جنس راق»، وأنهم أرقى من كل البشر، وأن كل المصريين سادة وكل الشعوب عبيد وخدم، لذلك لا ينبغى للمصريين أن يمارسوا وظائف الخدم ولا أن يعملوا فى مهن العبيد.. وقد اعتبر الملك أبسماتيك أن الجندية والجيش وأعمال الحراسة والحماية، هى من مهن الخدم التى لا تجوز للمصريين.. وقام أبسماتيك على ذلك بأخطر قرار فى تاريخ مصر.. قام بحل الجيش المصرى، وتسريح القادة والضباط والجنود المصريين، وبدأ تشكيل جيش جديد من الأجناس الأخرى، وحظر دخول المصريين الجيش لأنه لا يليق، ومنذ تلك اللحظة، لا يوجد جيش مصرى، وهذا ما يفسر لماذا كان احتلال مصر سهلا.. ولما كان المحتلون يواجهون أنفسهم والمصريون خارج المواجهة.. حيث كان الصراع على احتلال مصر وحكمها يدور بين الغزاة القدامى والغزاة الجدد. لقد بقيت مصر بلا جيش وطنى منذ الملك أبسماتيك حتى محمد على.. وفى المراحل الفاصلة التى جرى الاعتماد فيها على عسكريين مصريين فى الجيش.. كانت الدولة المصرية تحرز انتصارات عظيمة مثلما حدث فى العصر المملوكى، لكن تاريخ جيشنا الوطنى قد انقطع طويلا بعد قرار صالحجر الخطير. أسوق هذه القصة ردًا على أولئك الذين روجوا لعقود طويلة أننا أمة مهزومة، وتاريخ مهزوم، وأن المصريين كانوا يتفرجون أثناء تعاقب حكم الأجانب على مصر، وأن حرب 1973 كانت نصف انتصار، وأن مصر ليست إلا يونيو 1967. إلى الاثنين المقبل