كثيرة هى مواطن العبر فى حكاية هشام وسوزان. مريرة هى مواضع الشجون فى مشهد الحكم بالإعدام. آه، كم من رسائل مضمرة فى هذا المشهد المهيب!!، وإشارات خفية لا يلتقطها إلا من فتح قلبه وأغمض عينيه. يوسع صدره للكون الغامض يتلقى رسائله، للفضاء الفسيح، للملك والملكوت. للقمر الفضى الساحر يفترش القلوب. يحكى قصته. يخبرنا أنه شاهد هذه المواقف آلاف المرات. تكررت حتى السأم، تتابعت حد الملالة. قصة الكوكب الأرضى المنهمك فى الصراع، الغارق فى الشقاء، الملوث بالدماء. شاهد العشاق، وشاهد الجبابرة، قصص الحب حين تبدأ، وقصص الحب حين تنتهى. وصراع القوة والنفوذ، والجنود والعروش، والملوك والجبابرة. ثم الكل وهم والجميع هراء. تدور الأرض فى الفضاء عدة مرات وأهلها غافلون، يتتابع الليل والنهار، وتتلاحق السنون. فإذا الحسناء عجوز، والملوك مساكين!. ثم يعلن الموت انتصاره النهائى فيحصد الجميع. لصوصا وعشاقا، ملوكا وتابعين. يتفرج القمر عليهم - وهو ساخر - راقدين على ظهورهم فى القبور ينعمون أخيرا بالهدوء. بسكينة لم يجربوها فى عمرهم القصير الذى أنفقوه هباء. ثم يأتى آخرون يمرحون كما نمرح، يتصارعون ويعشقون، يكررون نفس المهزلة التى تدعى الحياة!. ■ ■ ■ لا أظننى سأنسى قط مشهد النطق بالإعدام. الأنفاس محبوسة فى انتظار القاضى. والأنظار زائغة والحاجب يصرخ بصوت يخلع القلوب: محكمة!. هذه محكمة الدنيا فأين محكمة الآخرة!!، الحكم العدل، الملك الديان، يقضى بين الخلائق لا بين موت وحياة، ولكن بين جنة ونار. يدخل القاضى الجليل وكأنه يحمل أثقال السنين، عبء المعرفة، ثقل الأمانة التى يحملها ويوشك أن يتخلص من عبئها المميت، ممثلا للعدالة معصوبة العينين، صارمة الوجه، ميتة الملامح. يجلس على المنصة فى جلال السكون، متجهما، وكأنه يعلم أن مصر توشك أن تهتز من وقع الإدانة، من مطرقة الأقدار تهوى على رؤوس الغافلين. الغارقين - وأنا منهم- فى الباطل والأوهام، والألوان المزيفة. «بسم الله. إن الحكم إلا لله. بعد الاطلاع على أوراق القضية والمداولة واستنادا إلى المادة رقم 381 من قانون العقوبات قررت المحكمة إحالة المتهمين إلى فضيلة المفتى. رفعت الجلسة». جملة لم تستغرق إلا دقيقة واحدة، لكنها تطوى فى ثوانيها الشحيحة كل عبر الزمان، ومأساة هذا الكائن الجهول الذى يدعى الإنسان. المضحك، المسكين، المخدوع بالألوان، المضلل بالأوهام. منشؤه نطفة، وختامه جيفة، ومسكنه قبر!. لوهلة شعرت - وأنا أسمع الحكم - أننا جميعا مضمرون فى شخص هشام طلعت مصطفى، مغرورين بدنيا زائفة، بزينة مضللة، بقوة مستعارة. بقصور هى فى حقيقتها قبور، بنساء كالمنايا. بمجد نمسكه فنقبضه هواء، بسعادة زائفة حقيقتها سراب. بدنيا نوشك أن نغادرها وتغادرنا، بقطار على وشك الوصول، بمقاعد فارغة تمتلئ بآخرين!. أواه يا دنيا لماذا تتخايلين لنا بعبث الأوهام؟، بزينة منصوبة، حتى إذا ظننا أيامنا أعياد ميلاد، وسمعنا نشيد الاحتفال، وهممنا أن نطفئ الشمعة، ونعلن البهجة، ونقسم التورتة، ونشرب الأقداح، وجدنا شموعنا مطفأة، وتورتنا مسممة وأقداحنا مكسورة. ■ ■ ■ هشام طلعت مصطفى، الجانى والضحية، القاتل والمقتول، المعن فى الترف حد الملل، الغارق فى الرفاهية حد الاختناق. لم يعد يسعده شىء بعد أن أصبح يملك كل شىء: قصورا تنطق بالعز والسيادة، يخوتا تهزم لجة البحر، طائرات تعانق زرقة السماء. ملل مميت يسمم النعمة، ويقلق النوم، ويبعث الفتور. وفجأة ظهرت فى حياته سوزان تميم. شاهدها غيمة مظللة فى شمس محرقة، سهم ملون يخترق قلبه، نداء اللحم والدم والروح والأعصاب. لم يكن يعرف أنها دليلة التى توشك أن تهدم شمشون الجبار!. الفتنة والغواية، الماء والنار. يتحرك فى روحه شىء، يخفق القلب خفقة زائدة، لم يكن يعلم أن منيته فى هذه الخفقة. فى الملامح الرقيقة والوجه الملون، فى بركة العسل التى تدعى عينيها، وشعرها المتطاير كسنابل قمح. لم يكن يعرف أن العشق دمار، والغضب نار، والغيرة حية سامة تلدغ القلب وتسمم الروح. وبقدر ما أحبها يكرهها. وكلما حاول أن يقبض عليها أمسك الهواء. وإذا لم تكن له فلن تكون لغيره. لم يبق إلا أن يقتلها. لم تكن سوزان تميم تعرف أن نهايتها اقتربت، لم يكن هشام طلعت يعرف أن نهايته اقتربت. لكن القمر كان يعرف!!، حكاية شاهدها آلاف المرات. تذهب سوزان، ويذهب هشام، ويبقى القمر، يحكى حكايته كل اكتمال، يقول إنه بعد المحاق هلال، وبعد البدر نقصان، لسان حال الكون ينطق بألف لسان: «لمن الملك اليوم ؟، لله الواحد القهار».