عندما كنّا فى المرحلة الإعدادية كانت مدرّسة التربية الرياضية تحرص على استقامة ظهورنا وأعناقنا فتقوم بتخصيص جزء من وقت الحصّة، للمشى حول ساحة الرياضة وكلّ منّا تضع على رأسها كتابا مع التركيز على حفظ التوازن خلال المشى. ولم أترك ممارسة هذا التمرين حتّى ابتُليت ب«الكمبيوتر» وتعاملت معه بعشوائية صحيّة كانت نتيجتها رحلة آلام (الفقرات العنقية) وما يصاحبها من أعراض، بسبب وضع الجلوس غير الصحىّ أمام الجهاز، وهروبى من الجلوس على مكتب يتناسب ارتفاعه مع استقامة الرأس والعمود الفقرى، مما أثّر على الرقبة بسبب وضعها المنخفض لعدم اختيار المكان الصحيح لأستاذى (الكمبيوتر)، وجلوسه معى على «الأريكة» طوال الوقت، مما زاد الضغط على عضلات الرقبة وساهم فى توتّرها. تلك الأسباب صارت تستفز غضبى كلما سمعت المثل القائل «اللى يبصّ لفوق يتعب وتتكسر رقبته»، خاصة بعد اكتشافى أن المُتعِب حقاّ هو النظر إلى الأسفل، وأن مؤلف هذا المثل ربما كان أجيرا تعوّد على الانحناء الدائم لسيّده بحيث لم يعد يجرؤ على النظر سواء فى عين سيّده أو ما متعه الله به مما يحرم على أجير، ناسيا أن الرأس لا ينحنى إلا إلى الله سبحانه (الذى ركّبه فوق الجسد)، وأنّ الخضوع لغيره والوالدين والعدل ضعف ومذلّة، والشموخ بلا غرور ثقة وكبرياء، وأن هذه الأمثال الراقدة على حنجرة الخوف لم تزرع فى ذوات من يتبعها غير الدونية والسلبية والازدواجية بل السادية والماسوشية، لنصبح تربة صالحة لزراعة أشجار الظلم، ونبات الصبر، حتّى أصبح البعض، إن لم تكن الأغلبية، يشعر بالنشوة عند طأطأة الرأس والاستسلام، ليذكّرنى ذلك بمشهد مازلت أحتفظ به فى الذاكرة لخادمة جارتى التى كانت تستفزها كىْ تنهال عليها ضربا فتغرق فى صمت غريب وكأنّها تحلّق فى عالم آخر، بينما جارتى مغيّبة بساديتها، وما إن تصح حتّى تستغيث بمن يبعد عنها تلك الخادمة التى تعوّدت على ضرب مخدوميها لها منذ الطفولة وأدمنت الخنوع والانحناء لاستقبال الضرب دون ردّ فعل أو دفاع أو كلمة، ليس سوى نظرة محفور عليها (من ينظر إلى فوق يُضرَب!).. هذا المثل يجب أن تعاد صياغته فقد أثبت الألم الذى يحتل رقبتى أن من (ينظر إلى تحت يتعب)، أما جمالياً فالرقبة الشامخة أجمل من المنحنية المنطوية بين الكتفين، ثمّ إنّ النظر إلى الأسفل لا يتعدى حدود القدمين، بينما التطلّع إلى الأعلى يسافر بك بين شمس وقمر ونجوم وأحلام ومناجاة وغيبوبة سموّ. فكم من ابن لأسرة تحت خط الفقر تطلّع إلى «فوق» يسبح فى فضاء الحلم باحثا عن بوابات أمل يفتحها بجهد ومثابرة وإصرار، ووصل لهدفه فى أن يكون عالما أو طبيبا أو مهندسا أو مفكرا ذا مكانة، وكم من الناس «اللى فوق» انحدروا إلى قاع الفشل، بسبب نظرتهم الأدنى (ورقبتهم المدلدلة إلى تحت ؟). التربة الاجتماعية والنفسية تحتاج إلى إصلاح وتنقية تخلّصها من ديدان اللامبالاة والتخلف، تحتاج إلى نثر بذور الوعى وريّها بالإرادة لمواجهة الغزو الاجتماعى والثقافى والسياسى الأشرس من الطوفان، وحذف هذه الأمثال من قاموس الحاضر، فلو خيّرت بين النظر إلى فوق أو الأسفل لنظرت إلى الأعلى بحثا عن مفاتيح الحلم، ثمّ أضع (الكولر) حول رقبتى لتستقيم وتستقيم معها نظرتى إلى الأمام، حيث بوابات الهدف أسلّط النظر إلى البعيد بتحدٍ يتجاوز العقبات وحذر يقِى من المطبّات. إليك.. يا مصر الهوى: أيّا معشوقة العمر.. وشوقا فاض فى صدرى.. ونوراً تاه فى ثغرى.. أيّا نجمى.. ويا شمسى.. ويا بدرى.. ألا بالله هل تدرين؟ بأن هواكِ.. موشومٌ بصدرِ اللَوْح فى دَهرى.. ومختومٌ على عمرى؟.. ألا بالله هل تدرى؟.. بشكوى الصبر من صبرى؟.. فقد نال الضنى منى.. وحارَ الكلّ فى أمرى.. ومايدْرون بأنّ وصالكِ طِبّى.. وما يدرون بأن رِضَابكِ خَمْرى.. وأنّ ظلامكِ ِفَجْرى.. وأنّ الوجدَ يا (أمّى).. كما البركان فى صدرى.. فلا أقوى على بُعْدٍ ولا أقوى على هجرِ. ألا.. يا مصر.. يا عِشْقى.. وياهَوَسَا بنا يَسْرى.. حَباكِ الله فى قوْمٍ.. دِماث الخُلْق والفِكْرِ.. صقورٌ فى سَما الرَوْعِ.. ِكرام النَفْسِ كالبحرِ.