لم نتذكر النيل وروابط وادى النيل إلا عندما سافر المنتخب القومى إلى السودان للعب مباراة التأهل لكأس العالم، بالمصادفة تذكرت النيل عندما كنت أقرأ رواية محمد المنسى قنديل، البديعة «يوم غائم فى البر الغربى»، وأعترف بأن لدىّ ضعفاً خاصاً وانحيازاً بلا حدود تجاه الأدباء الأطباء، خاصة كُتّاب القصة القصيرة والرواية مثل يوسف إدريس والمخزنجى والمنسى قنديل، وربما تتاح لى الفرصة فيما بعد أن أفسر سر هذا الانحياز غير القَبَلى، فأنا أعشق كتاباتهم ليس لكونى من قبيلة الأطباء الكُتّاب ولكن لأنهم بالفعل متفردون ومتميزون، هل لأنهم عاشروا تعرى الروح والجسد فلمسوا الصدق وشموا رائحة البكارة وعاشروا رعشة الحياة وخمود الموت؟!، فلنجب فيما بعد ولنقرأ معاً هذا الوصف العبقرى الرائع من المنسى قنديل للنيل المنسى لعلنا ندرك الإجابة. «كان النيل نهراً من أغرب أنهار الدنيا، فى الصيف عندما تجف كل الأنهار يخالف النيل الناموس وتفيض مياهه على الضفاف، وتهب عليه رياح متجهة للجنوب، ولكن أمواجه تعاكسها وتنساب نحو الشمال، ينحدر من تلال أفريقيا البعيدة، مهيباً كملك، لا يأبه بالغابات الكثيفة، ولا بحرقة الصحراء الممتدة، يخترق جلاميد الصخور بالغة الصلادة، ويواجه ستة من الشلالات العنيدة، يملأ الغابات الصامتة بالصخب والهدير، يفور بالزبد، وينثر الرذاذ ويخلق أقواس قزح لا تتبدد، يجتاز أشجار السنط والأبنوس والصفصاف والجميز، ويمضى متفرداً مثل شاعر حزين وسط مجاهل الصحراء، لا توقفه الهضاب ولا كثبان الرمال ولا جبال من حجر صوّان، يهبط بعنف من شلال عنق الجمل، وتفور مياهه عند شلال المرجان، ويتمهل ليلتقط أنفاسه قبل أن يقتحم شلالات بيت العبد والمعفور والحارك، وطوال هذه الرحلة الجافة لا يتلقى أى مدد إلا القليل من مياه نهر عطبرة السوداء، لا تجود عليه السماء بقطرات من المطر، ولا تذوب الثلوج من أجل إنعاشه، لا يحيط به إلا جلاميد حجرية داكنة، تشاركه أسرار الأبدية، ويحرص النهر بدوره على ألا يمحو ما عليها من نقوش وجعارين وخراطيش، يندفع وهو متقلب المزاج، حاملاً طمى الخلق الأول، فيه شىء من رعونة النيل الأزرق، وبعض من حكمة النيل الأبيض، يعلو ويهبط، ويتفرق ويتبدد أحياناً ليضيع فى مسارب المستنقعات، ثم يجمع شريانه الرئيسى المتوحد، لا يهدأ ولا يأخذ سمة الوقار والعبوس إلا عندما يلمح رؤوس النخيل فى جنوبى وادى مصر، أقدم نخيل عرفه بشر، يقف مزهواً على ضفاف النهر منذ آماد بعيدة، غرسه الفراعنة وشذبه الأقباط وأكل من بلحه جنود الرومان وعرف الفاتحون العرب أسرار فسائله فنشروها». يختم المنسى قنديل وصفه الرائع، قائلاً: «يصعد النخل كأذرع الآلهة القديمة، جذوره فى رطوبة الطمى بينما رأسه فى وهج السماء، يواصل النهر مسيره وسط صمت الوادى حتى ترتفع التراتيل، وتظهر أعمدة المعابد والمسلات وأبراج الكنائس والمآذن، وتنفرط عقود الحمائم كى تملأ عيونها من مشهد المياه الزمردية قبل أن تؤوب إلى أعشاشها فى كل مساء». حقاً، إذا أردت أن ترسم خريطة النيل بصدق فلابد أن تلجأ إلى المنسى قنديل لا إلى كتاب الجغرافيا المدرسى.