لن تكون منصفاً.. قبل أن تعترف بقدر ومكانة الدكتور عبدالمنعم سعيد، رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام، كمثقف ومفكر وخبير فى الاستراتيجيات والعلاقات الدولية، ولن تكون موضوعياً قبل أن تعترف أيضاً بأن الرجل الذى يحتل مكانة بارزة وسط المثقفين المحسوبين على النظام، يتمتع بقدر كبير من استقلالية التفكير والمواقف بعيداً عن الأجندة الرسمية، أو على هامشها، خاصة فيما يتعلق بقضايا الوضع الداخلى وملفات الإصلاح. قد يكون سعيد من أولئك الذين انحازوا إلى خيار التغيير والإصلاح من داخل النظام، باعتباره الممكن والمتاح حالياً، كما أنه الأقل كلفة حسبما يقول هو والذين معه من الوجوه المحترمة داخل الحزب الوطنى ومؤسسات الدولة الأساسية.. تلك قناعاته وهذا حقه، والمؤكد أن وجوده على رأس الأهرام أعاد لها ثقلاً فكرياً كاد يضيع، ورؤى واعية وناضجة كادت تختفى وسط استقطابات الأجنحة والأجهزة، وحساسيات المعارك الصغيرة. قبل ساعات من مباراة مصر والجزائر، التى جدد خلالها المنتخب الوطنى آماله فى بلوغ نهائيات كأس العالم، دخل الدكتور عبدالمنعم سعيد فى الجدل العام الذى دار حول المباراة وغادرها إلى مناطق سياسية وفكرية بعيدة عن الرياضة، لكن المفكر الكبير ركز مساهمته فى طرح شديد الوجاهة نظرياً لكنه مع كل الاحترام والتقدير لصاحبه يستحق المناقشة. بإيجاز، وجه سعيد انتقادات منهجية ذات وجاهة لفصائل المعارضة التى تركز على السلبيات، تاركة إيجابيات كثيرة، وبتعبير أدق، تنظر للنصف الفارغ من الكوب، متجاهلة النصف الآخر، ويخرج من ذلك لاعتبار أن ما حققه «جيل أبوتريكة» من إنجازات يعكس تحولات إيجابية فى المجتمع المصرى تصب فى صالح إنجازات النظام الذى استثمر فى البنية الرياضية التحتية 170 مليون جنيه لتطوير الملاعب، وتوفير فرص الاحتكاك الدولى باستضافة الأحداث الرياضية الكبرى، ثم يعرج لاعتبار الالتفاف الجماهيرى غير المسبوق، حول المنتخب طوال السنوات الفائتة مسألة إيجابية، جداً وتحولاً تاريخياً يصب، فى إجماله، فى عناصر القوة المصرية. ينتقد سعيد الآخرين لأنهم يركزون على النصف الفارغ، فيما يركز هو على نصف واحد أيضاً، متجاهلاً النصف الثانى، ويفترض أن ما حققه المنتخب الوطنى كان مخططاً ومرتباً على مستوى قومى وليس مجرد اجتهادات فردية أو جماعية لأشخاص وجماعات حققت طفرة ما فى لحظة تاريخية اعتاد عليها المصريون بين وقت وآخر فيما يخص الرياضة.. يتباهى بالبنية التحتية ولم يجب عن سؤال: لماذا لم تحقق هذه الاستثمارات إنجازات سوى فى كرة القدم إذا كان الأمر مخططاً بالفعل وليس جهداً فردياً، وأذكّره بأن الجماهير التفت، فى وقت سابق، خلف منتخب كرة اليد حين حقق إنجازات عالمية قبل سنوات سرعان ما انهارت لأنها كانت إنجازات أفراد وليست إنجازات نظام، وأذكّره بأن هذه المنظومة الرياضية عاجزة عن صنع بطل أوليمبى يعود بميدالية، وكل إنجازاتنا الأوليمبية كانت أيضاً مبادرات فردية للاعبين واتحادات رياضية منتخبة ديمقراطياً، لكن هناك من استخدم الإعلام لينسب هذه الإنجازات المحدودة لمرحلة بعينها. ينظر د.سعيد للظواهر الإيجابية خلف الالتفاف الجماهيرى الحاشد حول المنتخب، ويتجاهل خطورة اختزال الوطنية فى مباريات الكرة، وغياب العلم المصرى إلا فى مباريات الكرة، يقول إن الكنائس والجوامع تتوحد فى المدرجات ولا يثور حديث عن الفتنة الطائفية خلال المباراة، ويعتبر ذلك موقفاً إيجابياً، فيما أراه خطراً.. فإذا كان النظام الذى يحاول الدكتور أن ينسب له إنجازاً كروياً ويمنهج له هذا الإنجاز فكرياً نجح فى القضاء على التشاحنات الطائفية فى الملاعب، فلماذا لا ينجح فى الشارع، لماذا يحشد الجماهير إلى الاستاد ويفشل فى أن يحشدهم خلف صندوق اقتراع، والسؤال الأهم: لماذا تخرج الجماهير إلى الشوارع، رافعة الأعلام ومختزلة معانى النصر والبطولة والإنجاز فى نتيجة مباراة؟ والإجابة واضحة: إنه فراغ السياسة وعجز التنمية، هذا شعب محروم من الإحساس بالانتصار والإنجاز فيلجأ لكرة القدم، محروم من النزول إلى الشارع للهتاف ورفع الأعلام دون تنغيص أمنى، فيخرج مفرغاً كبته وغضبه عقب مباراة كرة قدم. الحقيقة أن كل ما اعتبره الدكتور سعيد إنجازاً وإيجابية سيرى فيه عشرات السلبيات لو قلب العملة على الوجه الآخر، سيجد فشلاً صارخاً للسياسة وصانعيها، للنظام ورموزه، للإعلام ونجومه، للوطن كله، والمؤكد أنه وهو المفكر الكبير المحترم يعرف كل ذلك، لكنه قرر فى لحظة أن يقول نصف حقيقة وأن يوجه نصف رسالة لمعارضة متشائمة على الدوام، وأن يخفى النصف الآخر من الرسالة الذى يعرف جيداً إلى أين لابد أن يذهب. [email protected]