مصر وادى الدين ووادى النيل معا، عظيمة بموقعها الجغرافى وتراثها التاريخى ومواردها الطبيعية والبشرية، كثيراً ما تشقى، لكنها سرعان ما تشفى، كثيراً ما تمرض إلا أنها لم تمت ولن تموت أبداً، بفضل قوام حضارتها الدينى والروحى، وجهود شرفائها ومثقفيها وعلمائها والعيون الساهرة دفاعاً عن سلامتها ضد كل الأخطار، كثيراً ما تتعرض لضغوط داخلية وأطماع خارجية وتحديات ومواجهات وتخريب وتدمير ونهب، ومع ذلك لا يزال ينبض قلبها بخير أجناد الأرض، لايزال فى الإمكان إنقاذها من المفاسد التى حاوطتها شيئاً فشيئاً، كالتلوث السياسى والاجتماعى والفكرى والعنف والأمية والاغتراب والزحام القاتل للإبداع وهجرة الكفاءات والبيروقراطية العفنة وتسلط أهل الثقة على أهل الخبرة وسيطرة حكم الفرد على إرادة الجماعة، وكل ذلك بشرط، أن ندرك أن أزمتنا ليست أزمة اقتصادية بقدر ما هى أزمة فقدان للهدف والرؤيا والمنهج والموضوعية، بشرط أن ندرك أن أزمتنا أزمة ضمير الأكثر أهمية على الإطلاق من أى قانون وضعى، لأن غياب الرقابة على الذات، إطلاق لعنان الفوضى وعموم الانفلات وضياع الضوابط، بشرط أن ندرك أننا جميعاً شركاء فيما جرى، ولا يزال يجرى، وعلى عاتقنا عبء إنقاذ ما يمكن إنقاذه. إن غض الطرف عن الخطايا جريمة، وتركه يستفحل ويتفشى جريمة أكبر، وما أصعب الطريق عندما تضيع البوصلة، وما أيسر الاتهامات فى زمن اللصوص، وما أهون الناس فى عيون الآخرين بعد هوانهم على أنفسهم، والسؤال الآن: هل فقدنا البوصلة فعلاً؟ وإذا لم نفقدها، فمن أين نبدأ؟ لا شك فى أن بوصلة الأمم فى قدوتها، وكم من أمم تجاوزت مشكلاتها وأزماتها ونهضت بسرعة مذهلة بسبب رجال آمنوا بمصلحة الجماعة قبل مصلحة الفرد، كانوا المثل الأعلى لبلادهم فى طريق النهضة والإصلاح، لذا سارت شعوبهم خلفهم متجاوزين الأنفاق المظلمة إلى شمس الحضارة الإنسانية، ومن هؤلاء الشرفاء فى مصر كثيرون، بعضهم فى السلطة، وبعضهم خارج السلطة، بعضهم من رجال الدين والسياسة والمجتمع، وآخرون من رجال الفكر والصحافة والإعلام، وهم جميعاً معنيون بنا، معنيون بهمومنا وقضايانا المصيرية وحتمية إنقاذنا من الإفلاس الذى تمكن منا فى شتى مناحى الحياة، وترك هؤلاء يحاربون وحدهم فى معركة تخصنا فى المقام الأول «معركة الإصلاح» معناه توقيع عقد شعبى مخل بالشرف، مع الطغاة والمفسدين يسمح لهم بموجبه بالتحكم فى مصائرنا أكثر فأكثر. والسقوط بنا إلى الهاوية، ترك هؤلاء يحاربون وحدهم فى معركة الإصلاح والتغيير، معناه إهدار البقية الباقية من الموارد، وحرمان أبنائنا- بمباركتنا ووصايتنا- من أى أمل فى المستقبل، بل والحكم عليهم بالحرمان والاغتراب مدى الحياة، فهل يصح أن نضيع حياتنا من أجل أن يموتوا؟ وهل هناك أعز من فلذات أكبادنا ندافع عنهم ونحميهم مهما كان الثمن؟ فمن العيب أن نتفرج على ما يحدث لنا دون أن يكون لنا رأى فيه وموقف منه، من العيب أن نترك العجلة تدور للوراء ونحن بين تروسها مكتفين بالصراخ والعويل والتضرع إلى الله كى ينصرنا على القوم الظالمين، والله لا ينصر المتواكلين والمتخاذلين والقانعين بالصمت، من العيب أن نخاف ونحن نتمتع بقدر لا يستهان به من الحرية، لم يتح لنا من قبل، وحراك سياسى يشع بالأمل وقرب الفرج، وعندما نتمكن من النظر بعيوننا، فلماذا نغمضها عندما تنهال علينا الصفعات؟ إننا فى مرحلة حرجة جداً من حياتنا، من أخطر مراحل تاريخنا، تفرض علينا أن نعيد حساباتنا، ونتخلى عن صمتنا المريب، وخوفنا غير المبرر، تفرض علينا أن ننخرط فى الحياة التى انعزلنا عنها أو عزلنا عنها بإرادتنا، تفرض علينا استثمار الحراك السياسى الحاصل وضرورة التفاعل الحميم مع الأصوات الداعية الداعمة للتغيير، لإعادة صياغة المنظومة السياسية، وتبنى أفكار جديدة، بديلاً عن الأفكار المظلمة بالخطب والتصريحات والوعود والأمنيات وغيرها من الأمور التى فصلتنا عن أنفسنا وأصابتنا بالبلاهة والعته والتخلف فى التعليم والصحة والسكن والمواصلات وسوق العمل.. إلخ. إن اتساق الشعب مع النخبة سيفرز الحرية سلمياً، فى زمن لا تباع فيه الحريات ولا تشترى، فى زمن من يستورد فيه رغيف العيش، يصدر كرامته. يا سادة: لقد عرفنا الله قبل نزول الأديان السماوية، فهل يستعصى علينا الآن، أن نعيد اكتشاف أنفسنا؟ للأسف الشديد، إننا كمصريين لم نقبل الضيم والامتهان إلا فى السنوات الأخيرة، رغم أن تاريخنا حافل بإيجابياتنا فى اتخاذ المواقف المناسبة فى الوقت المناسب، فنحن المصريين أول من قام بثورة شعبية فى الأسرة الخامسة للدولة القديمة فى عهد الملك أناس، والعمال المصريون هم من قاموا فى عهد رمسيس التاسع بالتظاهر أمام صوب الغلال، وحاصروها، وذهب منهم وفد للملك وأبلغه بأن أبناء العمال يتضورون جوعاً، فغضب الملك لما سمع، وما كان منه إلا أن حاكم وزراءه، وفتح صوب الغلال للشعب، ترى، فمن يغضب لأجلنا الآن؟ وأين قانون محاكمة الوزراء؟ ولماذا لم يتم تفعيله بعد؟ والشاعر المصرى إيفور، دخل على الملك وقال له: افتح أبوابك، إن أعوانك قد خدعوك، فبماذا ينشغل شعراؤنا هذه الأيام؟ المصريون هم من أوقف زحف التتار، المصريون هم من استرد بيت المقدس فى عهد صلاح الدين، المصريون هم من لقن الإسرائيليين فى حرب أكتوبر درساً لن ينسوه، المصريون هم المسؤولون عن كل ما يحدث، وعليهم وحدهم عبء الإصلاح، وتجاوز اتهامات بعضهم البعض إلى الوحدة لركوب قطار التنمية والتطور والذى ركبته دول كثيرة قبلنا، وتغير حالها، فلماذا لا نتغير؟ [email protected]