كان الرئيس الجزائرى عبدالعزيز بوتفليقة فى زيارة لواشنطن، حيث عقد لقاء مع عدد من الكتاب والصحفيين بنادى الصحافة القومى. كانت الحرب الأهلية لاتزال مشتعلة بقوة فى الجزائر، بل بدا أن هناك بعدا جديدا لها تمثل فى تصاعد العنف بين قوات الجيش والبربر. وكشخص يهمه كل قضايا العرب فإننى سألت الرئيس الجزائرى عن هذا الأمر، وكلى أمل أن أحصل على إجابة تطمئننى إلى أن الصراع الأيديولوجى مع الإسلاميين، لن يضاف إليه صراع عرقى مع البربر، لكن صدمتى كانت هائلة. فبدلا من توضيح الموقف بهدوء، فوجئت بالرئيس بوتفليقة يعرب عن دهشته لأن هذا السؤال «يأتى من الشقيقة الكبرى مصر». هكذا بكل بساطة ترجم الرجل لهجتى المصرية إلى أننى ممثل لمصر، رغم أننى -على ما أذكر- كنت لا أزال أعمل مديرا لمكتب قناة أبوظبى بواشنطن فى ذلك الوقت، ثم كان الجزء الثانى الكارثى من إجابته، حيث أخذ يتحدث عن وضع الأقباط فى مصر على طريقة: «لا تعايرنى ولا أعايرك.. الهم طايلنى وطايلك». وفكرت كثيرا فى أن أرد عليه وألقنه درسا فى التفريق بين صحفى محترف يطرح سؤالا منطقيا، وبين مسؤول يمثل دولة ويعبر عن سياساتها وهو شرف لا أدعيه، لكننى وجدت أن الأمر قد يتصاعد بما قد يؤثر على العلاقة المصرية الجزائرية خاصة إذا كان هذا هو أسلوب ومستوى تفكيره، وإن كنت قد ارتحت بعض الشىء لما رأيته من ردود أفعال الحاضرين الذين علت وجوههم الدهشة، وأعرب لى الكثيرون بعدها عن إحباطهم مما وصل إليه حال زعيم عربى منتخب!. هذه الحادثة البسيطة ربما تفسر سلوك القيادة الجزائرية مؤخرا. فعندما تصاعدت الأمور قبل مباراة القاهرة وبعدها بما ينبئ عن إمكانية وقوع كارثة، كان الأمل هو أن تتدخل القيادة على الجانبين لتهدئة الموقف وعدم الانسياق وراء مشاعر جماهيرية فظة أشعلتها صحف وقنوات تليفزيونية غير مسؤولة، لكننى لم أكن متفائلا، فالرئيس بوتفليقة الذى رأيته فى واشنطن ليس هو الشخص الذى أتوقع منه تدخلا عقلانيا من هذا النوع. أما على الجانب المصرى، فقد كان من المزعج أن نرى بعض البرامج الرياضية وهى تحول مباراة كرة إلى قضية وطنية ربطت كرامة وقيمة شعب بأقدام بعض لاعبيه، وقامت ب«تسخين» الجماهير وتذكيرهم بتاريخ الجماهير الجزائرية مع الفرق المصرية، ثم كانت المحاولات المكشوفة لركوب الموجة من الحزب الوطنى، بما أدى إلى تسييس واضح للمباراه، وإقحام اسم الرئيس مبارك فيها دون مبرر. إننا لا يمكن أن نساوى بين أخطاء فردية مرفوضة ارتكبها بعض الحمقى على الجانب المصرى مثل إلقاء طوبة على أتوبيس الفريق الجزائرى، وبين ما يصل إلى حد الجريمة البشعة للجماهير الجزائرية التى تعقبت الجماهير المصرية فى شوارع أم درمان، لكننا ونحن نقيّم الأمر بأكبر قدر ممكن من الهدوء وضبط النفس، لا يجب أن نغفل بعض الأمور الجوهرية: أولا: إن تعامل الفضائيات المصرية مثلما زاد من الشحن لدى المصريين، فإنه أيضا بحكم انتشاره ووصوله إلى الجزائريين، كان عاملا فى زيادة حدة مشاعرهم، ورغم أن الأنباء الملفقة التى نقلتها الصحف الجزائرية عن قتلى جزائريين كانت فى رأيى جريمة مهنية، فإن تعامل الفضائيات المصرية بدا مستخفا بالادعاءات بدلا من مواجهتها بشكل جاد يؤكد الحقائق بأسلوب يحظى بالمصداقية لدى الجزائريين. والمؤسف أن بعض فرسان الفضائيات لا يزالون يمارسون شجاعتهم الوهمية ضد الجزائريين من استوديوهاتهم المكيفة فى القاهرة، دون نظر إلى عواقب ذلك على المصريين العاملين فى الجزائر، وهذه ليست دعوة للصمت على أخطاء الجزائريين، لكن مواجهتها بأسلوب (فرش الملايات الفضائية) يضر أكثر مما ينفع. ثانيا: إذا كانت أعداد الجزائريين فى شوارع الخرطوم وصلت إلى عشرات الآلاف، كما ذكرت بعض التقارير المصرية، مسلحين بالسكاكين والمطاوى، فإن عدم وقوع قتلى أو إصابات خطيرة بين المصريين يصبح أمرا مثيرا للتساؤل، خاصة أن احتفالات الجزائريين بالفوز أسفرت عن مقتل 18 شخصا. هذا الكلام يقودنا إلى تفسير واحد وهو أن هدف الجزائريين كان ترهيب المصريين وليس قتلهم، وهذا لا يعنى القبول بما حدث، ولكن توصيفه بالشكل الصحيح، مع ملاحظة أن هذا الهدف كان يمكن أن يتحول إلى القتل والتدمير لو كانت نتيجة المباراة على غير ما تمنوه. ثالثا: إن إدارة الأزمة لم يكن ينبغى أن تنتظر إلى ما بعد المباراة، بل كان يتعين أن تتعامل مسبقا مع الاحتمال الأسوأ وهو إمكانية تعرض المصريين لخطر حقيقى فى حالة فوز مصر، وأن يتم اتخاذ ما يضمن سلامتهم، خاصة مع توافر معلومات كافية عن «معسكرات» مسلحة للجزائريين خارج أرض الملعب، وعلى الطريق إلى المطار. رابعا: علينا ألا نربط كثيرا بين كل ما فعلته الجماهير الجزائرية وبين مشاعر وعلاقات الجزائريين بمصر، فسلوك هذه الجماهير لم يكن ليتغير لو كان المنافس شقيقة كبرى أو صغرى، وهذا العنف المزعج صار أمرا مألوفا فى الملاعب الجزائرية بين فرق الدورى، ولا يمكن اعتباره موجها إلى مصر تحديدا، دون أن يقلل ذلك من إدانتنا لهذا السلوك. خامسا: هذا التحول السريع لمباراة كرة قدم لتصبح عنصر تخريب فى علاقة شعبين، يثير التساؤل عن طبيعة تلك العلاقات، وهل هى من الهشاشة إلى حد أن تتلاعب بها أقدام اثنين وعشرين لاعبا. لقد تساءل عمرو أديب فى برنامجه التليفزيونى: هما ليه بيكرهونا؟ وأعتقد أن الإجابة الأمينة عن هذا السؤال يمكن أن تفسر لنا الكثير مما يحدث فى علاقات مصر، ليس فقط مع الجزائر، ولكن مع العديد من الشعوب العربية. لذا يستحق الأمر مقالا مستقلا!.