كانت «نجع حمادى» مشهورة لدى المصريين بقناطرها الحارسة للنيل ومياهه المقدسة، كما كانت مشهورة بمجمع الألومنيوم، الأكبر من نوعه فى الشرق الأوسط، وأحد صروح الصناعة التى كنا نعول عليها فى الأيام الخوالى. وقبل هذا وذاك كانت نجع حمادى مشهورة بالمكتبة التى تحمل اسمها، والمعروفة أيضاً باسم «المكتبة الغنوصية» التى تحتوى على الأناجيل والكتابات الغنوصية.. وهى ثروة تاريخية وثقافية كبيرة لهذه المدينة التى كان اسمها فى العصر البطلمى «خنوبوسكيون»، ويعنى باليونانية «مزرعة الأرز». الآن.. ومع دوران عقارب الزمن إلى الوراء تحولت «مزرعة الأرز» إلى «مزرعة للذئاب» وأصبحت نجع حمادى مشهورة بكونها مسرحاً للفتنة الطائفية وإراقة الدماء والقتل على الهوية وترويع الآمنين، فى ذات اللحظة التى كانوا يتأهبون فيها للفرح احتفالاً بعيد الميلاد المجيد. لكن ما هو أبشع من هذه الجريمة الغادرة هو أن نجتر نفس الكلام الفارغ الذى تعودنا ترديده عقب كل حادث طائفى، دون العمل الحقيقى على تجفيف منابع هذه الكراهية الطائفية البغيضة، التى لم تعد كامنة تحت السطح وإنما باتت ظاهرة، بل ومتبجحة، بطول البلاد وعرضها. ورغم تحذيرات العقلاء من أن الفتنة نائمة وتنتظر من يوقظها فى أى لحظة، تجاهل من بيدهم الحل والعقد كل صافرات الإنذار. وكانت نتيجة هذا التعامل البيروقراطى البليد مع ذلك الملف بالغ السخونة هى استمرار الاحتقان الطائفى وتكرار الحوادث الطائفية بمعدل حادثين شهريا خلال العام الماضى وحده، لأننا لم نواجه المشكلة من جذورها واكتفينا بالمسكنات المؤقتة والشعارات الجوفاء. وها هى النتيجة المرة التى جنيناها نتيجة النظر إلى هذه القضية الخطيرة باعتبارها مجرد «ملف أمنى» رغم تعدد وتعقد جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وإذا كانت جريمة نجع حمادى تقول شيئاً، فإن هذا الشىء هو إنه قد آن الأوان للكف عن هذه السياسة البيروقراطية السطحية الخائبة، وانتهاج سياسة جادة وعلمية تواجه المرض الدفين ولا تكتفى بتسكين الأعراض الظاهرية. وهذه السياسة البديلة ليست «كيمياء» مستعصية على الفهم، بل هى معروفة وموصوفة، ولخص ملامحها الرئيسية «بيان المثقفين إلى الأمة» فى هذه المناسبة الحزينة، حيث أكد أن الإدانة السياسية والأخلاقية والقانونية والأمنية يجب أن تكون هذه المرة حاسمة ولا تمر مثل غيرها من الوقائع الطائفية التى سرعان ما تم تناسيها. وانطلاقاً من ذلك طالب البيان بأن تقوم الأجهزة السياسية والأمنية والقانونية والقضائية بإجراء تحقيق عاجل وشامل فى هذا الحادث البشع، وكشف خفاياه وإلقاء القبض على جميع المتورطين فيه، وتقديمهم إلى محاكمة علنية عادلة وعاجلة، وإعمال القانون بحزم، والكف عن أنصاف الحلول والمساومات المستندة إلى تسويات عرفية عفى عليها الزمن ولم تعد تتناسب مع مبادئ دولة القانون والحق وروح الدولة المدنية الحديثة. كما طالب البيان بمحاسبة جميع الأجهزة الرسمية التى يثبت تقاعسها، أو إهمالها، فى التعامل مع هذا الملف الملتهب، مما أتاح لحفنة من المتعصبين اقتراف هذه المجزرة. ورغم أن البيان حمَّل المسؤولية الأولى لبعض المؤسسات الرسمية عن استمرار هذه الأحداث المؤسفة، وطالب الدولة ومؤسساتها بإعداد حزمة من السياسات واستراتيجيات العمل اللازمة فى المجالات السياسية والإعلامية والتعليمية والدينية والثقافية للتصدى لجذور المسألة الطائفية فى مصر، فإنه أهاب بالمجتمع المدنى القيام بمسؤولياته لنزع فتيل هذا الحريق الطائفى الذى يهدد الوطن والأمة والدولة الحديثة، فهذا الاحتقان الطائفى هو «نتيجة» ل«مقدمات» كثيرة سكتنا عنها أو أغمضنا عيوننا أمام استفحالها. وقد آن الأوان للكف عن سياسة «الإنكار» والادعاء بأن كل شىء تمام، وأن هذه الانفجارات الطائفية ليست أكثر من أخطاء «فردية». آن الأوان للاعتراف بأن هناك مشكلة، بل ومشكلة خطيرة، ليس فى مصر فقط وإنما فى العالم العربى كله، ويكفى أن نلقى نظرة على الخط البيانى لأعداد المسيحيين العرب لنكتشف الحقيقة المرة، ألا وهى أن المناخ السائد فى هذه البلدان أصبح طارداً لهؤلاء المواطنين المسيحيين، الذين أصبحوا يفضلون الهجرة إلى المجهول بدلاً من البقاء فى هذه البيئة غير الصديقة. انظروا إلى المسيحيين فى العراق.. الذين كان تعدادهم قبل الحرب الأمريكية على بلاد الرافدين يزيد على مليون نسمة. الآن هاجر معظمهم ولم يبق إلا طارق عزيز فى السجن وبضعة آلاف من العراقيين المسيحيين الذين يعدون حقائب السفر استعداداً لمغادرة «جحيم الوطن» الذى لم يسمح لهم حتى بالاحتفال بعيد الميلاد لتزامنه مع احتفالات الشيعة ب«عاشوراء»!! حتى فلسطين التى كان المسيحيون يمثلون ما يقرب من ربع إجمالى عدد سكانها، أصبحت طاردة للمسيحيين من بلد المسيح ومهد المسيحية، ولم يعد هؤلاء يمثلون أكثر من 5% من إجمالى عدد السكان... و«الفضل» فى ذلك يعود إلى إسرائيل اليهودية من جهة و«حماس» الإسلامية من جهة ثانية.. ويا لها من مفارقة!! ورغم عدم وجود إحصاءات رسمية فى مصر، فإن هناك شواهد كثيرة على تزايد معدلات هجرة أقباط مصر فى السنوات الأخيرة. ولا يحتاج الأمر إلى ذكاء خاص للربط بين هجرة المسيحيين العرب، والمصريين، وبين استشراء التيارات الأصولية الإسلامية من المحيط إلى الخليج وترهل الحكومات العربية كلها، بل ومنافسة بعضها لجماعات الإسلام السياسى فى ارتداء عمامة الإسلام لترميم شرعيتها المشروخة. وهذا المؤشر بالغ الخطورة لأنه يعنى باختصار زيف كل الشعارات الأصولية التى تتغنى بالتسامح، ويعنى أن التعصب قد نجح فى احتلال مساحات شاسعة من المجتمع فقدت التراث المصرى الحضارى فى التعايش والتسامح وقبول الآخر الدينى، الذى هو فى الوقت نفسه مكون رئيسى من مكونات الجماعة الوطنية. ولعلنا لم ننس بعد تصريحات الشيخ يوسف القرضاوى، وهو مرجع دينى له تأثير واسع النطاق، والتصريحات التى نقصدها هى الخاصة بعيد الميلاد المجيد، والتى قال فيها إن الاحتفال به «حرام وعيب ولا يليق». وطالب التجار الذين يبيعون شجرة عيد الميلاد بالامتناع عن عرضها والإعلان عنها بصورة «تؤذى مشاعر المسلمين». فإذا كان هذا رأى مرجع دينى يصنفه الكثيرون ضمن فئة «أئمة الاعتدال»، فماذا عساه أن يكون مضمون الخطاب الثقافى الذى يروجه «أئمة التطرف»!! علماً بأن هؤلاء الذين يرفضون مظاهر احتفال المسيحيين بعيد الميلاد فى البلاد العربية هم أنفسهم الذين ملأوا الدنيا صراخاً واحتجاجاً على نتائج استفتاء سويسرى بحظر بناء مآذن للمساجد الجديدة فى هذا البلد غير الإسلامى. وها هى مذبحة نجع حمادى تأتى لتبرهن لنا على ضرورة نبذ هذا الخطاب المنافق والمزدوج، وضرورة الاعتراف بالمشكلة وحجمها، من أجل تحليلها وتشخيصها ووضعها على طريق الحل. وطريق الحل يبدأ بأن يأخذ المجرم جزاءه، فليس منطقيا أو مقبولاً أن تمر كل حوادث الفتنة الطائفية السابقة دون أن يصدر فيها عقاب رادع لشخص واحد!! وطريق الحل يبدأ بإصدار تشريعين عاجلين كفيلين بتخفيف حدة حالة الاحتقان الطائفى الراهنة: القانون الأول هو قانون دور العبادة الموحد الذى يكفل هذا الحق لكل المصريين على قدم المساواة. والقانون الثانى هو قانون مناهضة التمييز بسبب الدين أو اللون أو الجنس أو الوضع الاجتماعى، وعزل الموظف العمومى الذى يتورط فى مثل هذه الممارسات التمييزية. هذان القانونان يمكن أن يخلقا مناخاً مواتياً لمواجهة حالة الاستقطاب الدينى الحالية والتقدم نحو تحقيق الاندماج الوطنى على قاعدة المواطنة وقاعدة التنوع.. فما أتعسها من أمة تفقد – بإرادتها - أحد مكوناتها الأصلية، وتقضى بنفسها على تراثها الحضارى فى التسامح واحترام التعدد، فكأنها شخص يبحث عن القوة من خلال قطع يده اليوم وبتر ساقه غداً. باختصار.. لقد أصبحنا أمة فى خطر، وعندما تكون الأمم فى مفترق الطرق لا مجال للعب على الحبال أو إمساك العصا من المنتصف. [email protected]