لو تخيلنا عشرة شخوص اجتمعوا لمناقشة هل تدفع مصر خمسة وخمسين مليون جنيه لقناة الجزيرة مقابل إذاعة عشر مباريات فى كأس أمم أفريقيا أم لا؟.. سنجد خمسة يوافقون على هذا وسيطالبون أنس الفقى، وزير الإعلام، بسداد أى مبالغ لتأمين حق المصريين فى مشاهدة منتخبهم وهو يلعب فى أنجولا.. وسيتحدث هؤلاء الموافقون عن فرحة كرة القدم ومتعتها وضرورتها للناس، وفى مقدمتهم الفقراء والبسطاء باعتبارها بديلا لأشياء وحقوق كثيرة غائبة فى مصر.. وسنجد خمسة آخرين فى المقابل يرفضون أن يدفع أنس الفقى كل هذا المال لمجرد أن يجلس المصريون فى بيوتهم ويشاهدون مباريات للكرة على شاشاتهم الرسمية.. وسيتحدث هؤلاء الرافضون عن فقر مصر والمصريين وأن هناك فى بلدهم ما يحتاج لهذا المال أهم وأجدى من لعبة الكرة، وبشرط ألا يذهب هذا المال فى النهاية إلى جيوب أساتذة الاتجار بالحقوق والأراضى والبشر.. وسيمتلك كل فريق منهما الحجج التى يستند إليها والمنطق الذى لا يخلو من الوجاهة والضرورة والاحترام.. وسيصبح من حقى، ومن حق أى إنسان آخر فى مصر، أن يختار الانضمام للفريق الذى يعجبه أو يقنعه سواء فريق الرفض أو فريق القبول.. وأنا شخصيا من الفريق الرافض رغم احترامى لكل الأدوار السياسية والإنسانية والاجتماعية لكرة القدم.. وقد كان من الواضح أن أنس الفقى من الفريق الموافق.. وكان وزير الإعلام على استعداد لأن يدفع ليذيع.. وكان سيدفع بالفعل لولا أن الدكتور أحمد نظيف، رئيس الحكومة، رفض ولم يوافق ولم يدفع.. وبالتالى لا التليفزيون المصرى سيذيع البطولة.. ولا الفضائيات المصرية أيضا.. وسيبدأ الجدل والصخب فى مصر كلها من اليوم.. وبعيدا عن الحسابات الخاصة والمعارك الجانبية بشأن أنس الفقى والمؤيدين أو المعارضين له.. فأنا أتخيلها لحظة مناسبة لأن نراجع كلنا أنفسنا وحساباتنا.. حتى فى شكل ومنهج خلافنا فى الرأى والفكر والموقف.. لحظة مناسبة لأنس الفقى نفسه يراجع فيها حساباته كوزير لإعلام مصر ليقوم الآن بتصحيح كثير من الصور والحسابات الخاطئة.. لابد أن تتحول كل الشاشات المصرية إلى إضافة جميلة وحقيقية لإعلام مصر وليست عبئا ثقيلا عليه لأن مصر فى لحظات كثيرة تحتاج لكل هؤلاء الناجحين والمبدعين على مختلف الشاشات المصرية.. لابد من الاعتراف بقواعد اللعبة التى تغيرت وأن المستقبل فى النهاية فى العالم كله للإعلام الخاص وليس الرسمى.. لابد من استثمار هذه الأزمة لنتعلم كلنا فى مصر مبدأ احترام الحقوق.. وإذا كانت الجزيرة الآن صاحبة حقوق.. فلابد من احترامها بدون أى سخرية أو تطاول أو تحريض الناس على سرقة هذه الحقوق بأى شكل وكأننا وطن يعيش الناس فيه الآن دعوة عامة لتعلم السرقة وعدم احترام الآخرين وحقوقهم.. لأن الذى سيسرق اليوم حقوق الجزيرة وسط تشجيع الجميع ومباركتهم.. هو الذى سيسرق غدا حقوقا حصرية للتليفزيون المصرى.. أو لقناة الحياة.. أو دريم أو مودرن أو المحور.. أو حقوقاً لا تملكها إلا قناة الأهلى أو قناة الزمالك مستقبلا أو أى قناة أخرى فى مصر.. والذى سيجد لنفسه اليوم مبررا للخروج على القانون والقواعد وانتهاك حقوق الآخرين من أجل كرة القدم.. سيغدو من الصعب لاحقا منعه من السطو على حقوق صحفية أو سينمائية أو أدبية أو اقتصادية. [email protected]