كان ذلك يوماً مشهوداً، وكنت أحد شهوده، كان صداما دموياً سالت فيه دماء واستدعيت فيه الفرق الطبية على عجل وتطلب الأمر بعد حين التدخل الجراحى. ولكن لا تترك لخيالك العنان، فليس للأمر علاقة بما ألمح إليه الرجل من احتمال خوض انتخابات الرئاسة القادمة فى مصر بعد حوالى عامين، ولا بتدخله فى ساحات الصراعات الساخنة أو المحتملة سواء فى العراق فى زمن صدام حسين الذى كان يراه حتماً فى أحلامه غير الوردية إن لم يكن فى كوابيسه فى الشهور والأيام التى سبقت اجتياح الأمريكان لبغداد وقبل ذلك بسنوات حين كانت فرق التفتيش التابعة لوكالة الطاقة الذرية تجوب أنحاء العراق بحثاً عن أسلحة دمار شامل لدى من لم يكن يملك فى جعبته إلا أسلحة الخراب الشامل لشعبه وأمته، وحينما فشل الأمريكان فى العثور على أى من تلك الأسلحة المزعومة أطلقوا فرق التفتيش على قصور الطاغية علهم يعثرون على بغيتهم مخبوءة تحت أحد الأسرة الرئاسية. وحينما لم يعثروا على أى شىء لا هنا ولا هناك ادعوا أنهم عثروا على مركبات متنقلة، وفى كل تلك المواقف والادعاءات ظل البرادعى على موقفه لم يتزحزح، فقد أصر على عدم وجود أسلحة دمار شامل فى أى بقعة من العراق غير عابئ بغضبة السادة الأمريكان فى زمن جورج بوش الابن وعصبة المحافظين الجدد الذين اعتبروا العالم إقطاعية أمريكية يفعلون بها ما يحلو لهم. كما أن الأمر لا يتعلق أيضاً بالملفات الأكثر حداثة والتى تقف فيها إيران فى نفس قفص الاتهام الذى وقفت فيه العراق من قبل مع بعض الاختلافات وأبرزها أن التهمة الآن تتعلق بمشروعات قائمة للتطوير النووى للأغراض السلمية والمطلوب ألا تتحول مستقبلاً إلى مشروعات لإنتاج الأسلحة النووية وتستمر الضغوط ليس فقط من الأمريكان ولكنها معهم وقبلهم من الإسرائيليين الذين يرون أن التكنولوجيا النووية حكر عليهم وأن انتقالها إلى أى من دول المنطقة أمر من المحال ولن يحدث إلا على جثثهم، وظل البرادعى يقوم بمهام الوساطة والتفتيش بنزاهة واقتدار مما أهله للحصول على جائزة نوبل للسلام وتقليد الرئيس حسنى مبارك له وشاح النيل تقديرا لما حققه من إنجازات عالمية، طوال مسيرة الرجل كانت له مواقف لم يلتفت فيها إلى اكتساب شعبية ولم يحاول خلالها استرضاء الكبار كى يحتفظ بمقعده فى رئاسة الوكالة الدولية للطاقة الذرية والذى شغله لثلاث دورات متتابعة فى إنجاز غير مسبوق. مواقف الرجل صريحة وواضحة ومعلنة لا مداراة فيها ولا مواربة. كان يدلى بشهادة الحق ويقدم تقارير تعبر عن واقع الحال غير عابئ بغضبة هنا أو زجرة هناك. وكنت أتابع مواقف الدكتور البرادعى وأنقلها من خلال برنامج «من القاهرة» الذى كان يذاع على قناة النيل للأخبار. وكنا نستضيفه عبر الأقمار الصناعية من مقر وكالته فى فيينا وكان مجاملاً للقناة المصرية كأجمل ما تكون المجاملة. فلم يرفض لنا يوما طلباً للاستضافة فى البرنامج رغم جدول أعماله المشحون، وكنا نعلم من مصادرنا أنه كان يرفض فى نفس الوقت العديد من طلبات الشبكات الأجنبية. وقد اتسمت لقاءاته بالسخونة وحفلت بالعديد من الانفرادات الإخبارية. وأخيراً جاء اليوم المشهود حين علمنا أن الدكتور البرادعى سوف يحضر إلى القاهرة فى زيارة سريعة. ونشط فريق الإعداد على الفور وتمكن من حجز موعد للقاء مسجل منفرد للبرنامج. وفى الموعد المحدد تماماً- وكما هى عادة كل الكبار فى تعاملهم مع أجهزة الإعلام عبر السنين- دخل البرادعى إلى استديو 2 فى ماسبيرو فى موعده المحدد تماماً. شخصية الرجل بقامته المديدة ونظراته الثاقبة وحضوره الطاغى أشاعت جوا من الحماسة والترقب بين كل العاملين فى الاستديو. كانوا يتسابقون لضبط الإضاءة وتركيب الميكروفونات. وكان الضيف أنيقاً فى غير تكلف وكانت عباراته تشبه ملبسه، وتدفقت الإجابات بكلماتها المنتقاة على لسانه. لم تكن هناك لحظة توقف واحدة طوال اللقاء الذى استمر ثلاثة أرباع الساعة صلنا وجلنا خلالها بين ربوع السياسات العالمية والإقليمية وكان واضحاً انحياز البرادعى للحق ووقوفه إلى جانب الحقيقة فى كل المواقف. وعند انتهاء اللقاء صفق كل من كان فى الاستديو تحية للضيف الكبير. وتدافع العاملون لتحيته ولالتقاط الصور التذكارية ولكنه اعتذر بلطف نظرا لارتباطه بموعد مع السيد عمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية. وتبادلنا التحية ومضى البرادعى للحاق بموعده بينما انتظرت أنا فى الاستديو لإنهاء بعض الإجراءات. وما هى إلا دقائق معدودات حتى جاءنى نذير صارخاً الحقوا لقد ارتطم الدكتور البرادعى أثناء خروجه من البلاتوه بنتوء بارز لماسورة ضخمة من المواسير التى تخفى كابلات الاستديو، ولماذا ارتطم هو ولم يرتطم أحد غيره بهذا النتوء العشوائى؟ لأنه أطول منا بكثير ونحن نحفظ المكان جيداً ونعرف مواطئ أقدامنا وقد حاولنا تنبيهه إلا أنه كان يسير بخطى سريعة ولم نتمكن من اللحاق به. ومع مزيد من الأسئلة والاستجوابات يتضح أن المصباح الكهربائى الذى ينير ذلك المسار احترق قبل خروج الضيف بدقائق. طبعاً من الصعب أن يصف الإنسان مشاعر الخجل التى تنتابه فى مثل هذه الظروف التى يصاب فيها ضيف عزيز عليك فى مكان أنت مسؤول عنه. كل عبارات الاعتذار بكل لغات العالم تفقد كل معانيها وكذلك يتبدد كل جهد يبذل للإسعافات الأولية. فمع اندفاع الرجل بخطواته الواسعة السريعة جاء الارتطام بمساورة الاستديو مروعاً وأين؟.. فى أعلى الجبهة وفى جزء كان انهمار الدم منه أكثر من المعتاد. قام الطبيب النوبتجى فى ماسبيرو بالإسعافات الأولية لوقف نزيف الدم وضمان عدم تلوثه. ولكن الأمر تطلب ما هو أكثر من ذلك حيث إن الأطباء فى المستشفى الخاص الذى توجه إليه بعد ذلك قاموا بعمل بعض الغرز لعلاج الإصابة. وقد ظلت آثار تلك الإصابة ظاهرة فوق جهته وكنت أتابعها على شاشات التليفزيون المحلية والعالمية فترة من الوقت إلى أن اختفت تماماً والحمد لله. ونسيت الأمر برمته إلى أن جاءت مسألة الترشح فى الانتخابات وما صحبها من لغط لا يخلو كثيراً من مغالطات وأفكار لا تقل عشوائية عن ذلك النتوء اللعين فى المسار المظلم فى البلاتوه. وحينما نذكر تلك الواقعة فإننا لا نستهدف إثناء البرادعى عن الدخول فى معترك السياسة المحلية. بل العكس هو الصحيح، فمصر تحتاج إلى جهود كل أبنائها الشرفاء أصحاب الرؤية المخلصين، وخاصة أولئك الذين تضطرهم ظروف العمل إلى المعيشة بعيداً عن الوطن لفترة من الزمن فهم وحدهم القادرون على اكتشاف مواطن العشوائيات لأن أعينهم لم تعتد عليها كما أن حاسة الشم لديهم لم تتلف من طول اعتياد استنشاق أهرامات الروث والقاذورات التى باتت تملأ شوارع المدن على اختلاف مسمياتها. وإذا جاز لى أن أتقدم بنصيحة إلى الرجل الشجاع فإننى أقول له «استثمر خطواتك الواسعة الواثقة وهامتك العالية الشامخة فى تحقيق أهدافك السامية ولا تلتفت للعشوائيات بأقصى ما تستطيع هو إحداث جرح سطحى تزول آثاره مع الأيام».