عندما جاءت فاتورة هاتف منزل المحاسب، وليد محمود، 800 جنيه، لم يصدق فى بادئ الأمر، وظن أن هناك خطأ من جانب «السنترال»، وذهب ومعه غضبه ليقدم شكوى يطلب فيها تصحيح الفاتورة، فمن المستحيل أن يصل حساب مكالمات المنزل القليلة إلى هذا المبلغ، خاصة أنه وزوجته يعملان فى نفس المكان من الثامنة صباحا وحتى الثامنة مساء، والمكالمات القصيرة التى يجريانها للاطمئنان على صحة بعض الأقارب والأصدقاء ليست سببا كافيا ليزداد حساب مكالماتهم من مائة جنيه فى آخر فاتورة تم دفعها إلى 800 جنيه كاملة. وبعد لحظات قليلة من انتظار نتيجة الشكوى جاء الموظف المسؤول ليؤكد له صحة حساب الفاتورة، مصطحبا معه كشف بالمكالمات التى أجريت طوال الثلاثة أشهر الماضية، ليفاجئ «وليد» بعشرات الاتصالات اليومية لأرقام تبدأ ب0900، وهو الرقم المخصص لمسابقات التليفزيون التى يتم الإعلان عنها بجميع القنوات الفضائية، وظن مرة أخرى أن هناك خطأ ما، لكن بمواجهة زوجته اكتشف الحقيقة. كانت زوجته تتصل بشكل يومى بمسابقات التليفزيون على أمل أن تربح مبلغا كبيرا يريحها من العناء اليومى، وبررت فعلتها بأن راتبه وراتبها لا يتجاوزا معا 1000 جنيه شهريا، وهو رقم لا يكفى لسد احتياجات المنزل، خاصة مع إيجار الشقة، لذلك داومت على الاتصال بكل المسابقات صاحبة أرقام الجوائز الكبيرة، لعل وعسى يحالفها الحظ وتحدث المعجزة، لتصبح بين ليلة وضحاها من أثرياء البلد. حالة «وليد» ليست فريدة من نوعها، بل تكاد تكون مثلا معبرا عن انتشار ظاهرة 0900 بسرعة خلال الأعوام الأربعة الماضية، فلا يخلو برنامج تليفزيونى بأى قناة فضائية من تلك النوعية من المسابقات، والتى تقوم فكرتها على الكسب السريع بأقل مجهود ممكن، فليس على المشاهد سوى أن يتصل من خلال تليفونه المحمول، وإن كان لا يملك واحدا، فالأمر ليس بمشكلة على الإطلاق، حيث خصصت تلك المسابقات مع الوقت أرقاما أخرى للهواتف الأرضية، والدقيقة لا يقل ثمنها عن جنيه ونصف الجنيه. وبالطبع، الإجابة عن سؤال المسابقة تستغرق العديد من الدقائق التى لا تقل عن خمس فى معظم المسابقات، والأسئلة أيضا لا تشكل هى الأخرى معضلة، فأصحاب المسابقات يختارون أسهل الأسئلة وأتفهها لجذب المزيد من المشاهدين، والأمر يتم بسهولة فائقة إذ يقوم المعلنون بالتعاقد على ارقام خاصة مع شركات الاتصالات، وتكون لشركة الاتصالات نسبة محددة من قيمة الدقيقة. منال عبد الحليم -42 عاما- امرأة عاملة، اعتادت على الاتصال بمسابقات التليفزيون بشكل دورى، لكنها تصف نفسها ب«الواعية»، حيث لا تشارك سوى فى المسابقات التى تزيد قيمة الجائزة فيها على 50 ألف جنيه، وهدفها أيضا محدد، الانتقال من طبقتها الاجتماعية ووضعها الحالى إلى طبقة أخرى أعلى، وتشير منال إلى أنها حاولت أن تفعل ذلك مرارا من خلال اجتهادها فى المراحل التعليمية المختلفة، واجتهادها ايضا فى عملها إلا أن الظروف المادية الصعبة حالت دون تحقيقها لحلمها. وتقول: «أفلام الأبيض وأسود كانت مخليانى فاكرة إن مجرد اجتهادى ودأبى فى حياتى المهنية هيخلى حياتى أحسن وينقلنى لمستوى اجتماعى أفضل.. لكن الحقيقة غير كده خالص، مفيش غير الفلوس اللى بتنقل الواحد النقلة دى». آلاء مجدى-23 عاما- خريجة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، لديها اقتناع خاص بجمال صوتها، وقابلت العديد من المنتجين فى محاولة لإنتاج شريط لها، إلا أن أياً منهم لم يتحمس للأمر، لذلك قررت أن تتفرغ للمسابقات، كى تحدث المعجزة وتستطيع كسب الأموال التى ستمكنها من الإنتاج الخاص لنفسها، مع إجراء عملية تجميل لتصغير أنفها الذى تراه غير مناسب ل«مطربة صاعدة». أما ثريا محمود - 56 عاماً - فهى لا تتصل سوى بالمسابقات الإسلامية، بسبب اقتناعها بأن «فلوسها حلال»، والمعجزة التى تنتظرها من وجهة نظرها هى الذهاب إلى الحج، حيث أصبح حلما صعب المنال بعد أن وصلت أسعاره إلى خمسين ألف جنيه. والهدف من ذهاب ثريا للحج ليس فقط أداء فريضة إسلامية، إنما أيضا جزء منه «برستيج» اجتماعى بين صديقاتها اللاتى ذهبن جميعا لأداء الفريضة، بالإضافة إلى لقب «حجة» الذى لا يمكنها الحصول عليه دون الذهاب لأداء الفريضة. الدكتورة نادية حليم أستاذ علم الاجتماع ترى أن الأمر طبيعى بسبب الظروف الاقتصادية السيئة التى يعيشها الناس، وأيضا فى ظل غياب المعادلة الطبيعية للنجاح والتفوق وهى «نتعلم نشتغل.. ننتج.. نكسب»، فالطموحات التى كان يتم إشباعها بطريقة طبيعية من خلال العمل والانتاج أصبحت أمرا شبه مستحيل، فغابت قيم العمل والاجتهاد والتخطيط والسعى، ليحل محلها قيم الحظ والاعتماد على أشياء أخرى غير العمل.