هل يمكن أن ننكر دور تجارب الحياة فى تكوين الإنسان؟ هل الشخصية مثل لون العينين تورّث عبر الجينات؟ الجينات نفسها ألا تتغير وتتطور مع تجارب الحياة وما يعيشه الفرد والجماعة من أحداث سياسية واجتماعية، سعيدة أو تعيسة؟ نحن نرث بعض صفاتنا عن الآباء والأمهات والجدود والجدات، يقول المثل القديم: العرق يمد لسابع جد، أضيف من عندى: ولسابع جدة أيضا، لكن العوامل الوراثية أو الجينات ليست وحدها المسؤولة عن صفاتنا، نحن نتاج تاريخنا الاجتماعى بمثل ما نحن نتاج الجينات والهرمونات والموروثات البيولوجية، لقد انتهت نظرية سيجموند فرويد القائلة بأن «البيولوجيا هى مصيرنا». مثلا أنا نشأت فى أسرة تحترم المرأة، رأيت أمى فى طفولتى كاملة الأهلية فى البيت، لا يرفع أبى صوته على صوتها، لا ينهرها ولا يوجه لها أمرا، رأيت أبى منذ طفولتى يحترم أمه وزوجته، رغم أن أمه كانت فلاحة كادحة لا تقرأ ولا تكتب، وأمى لم يكن لها عمل خارج البيت ولا ايراد خاص بها أو منصب، لكن أبى تربى منذ طفولته على احترام أمه، هى علمته كيف يحترمها، كانت جدتى الفلاحة قوية الشخصية، مات زوجها وهى شابة فاعتمدت على نفسها، اكتسبت ثقتها بنفسها عبر تجارب الحياة. غرست فى ابنها منذ طفولته الثقة بنفسه، كانت جدتى تزرع الأرض بيدها، تأكل من عرق جبينها، لا تعيش عالة على أب أو زوج، تتحدى العمدة فى القرية، وتثور مع الفلاحين ضد الملك والإنجليز، تغنى مع الفلاحات وترقص بالفرح تتحدى البؤس، استطاعت أن تدخر من عملها وترسل ابنها ليتعلم فى الأزهر ودار العلوم، علمته الكرامة وعزة النفس والتحدى، تخبط على بطنها بيدها المشققة المحروقة بالشمس قائلة: «الملك ابن تسع شهور خرج من بطن أمه زى بطن أمك دى»، وتضرب بكفها الكبيرة على بطنها رافعة رأسها إلى السماء، من أين لها بهذا الكبرياء؟، ما فيش حد أحسن من حد إلا بالعمل، العمل عبادة، ربنا هو العدل عرفوه بالعدل، هذه كلماتها انحفرت فى خلايا ابنها منذ الطفولة، ورث صفاتها البيولوجية وتجاربها الاجتماعية، قامتها الطويلة الفارعة، خطوتها الواسعة الممشوقة، عنقها القوى يحمل الرأس المرفوع، تمردها ضد الظلم وحبها للرقص والغناء، تفوق أبى فى الدراسة وأحب الأدب والعلم، كره النفاق والعقل الجامد القائم على التقليد، خرج فى مظاهرات ضد الاستعمار البريطانى والحكم الملكى، تمرد على نظام التعليم فى الأزهر، رغم ذلك أنهى الدراسة فيه بتفوق ودخل مدرسة القضاء الشرعى، كانت مدرسة أكثر تقدما من الأزهر، اكثر تطورا فى فهم علوم الدين والشريعة، كانت أفكار الشيخ محمد عبده تدرس فى هذه المدرسة، تخرج فيها عدد من الرواد الذين لعبوا دورا فى النهضة الفكرية، وحركة التحرر الوطنى من الاستعمار البريطانى، خلال العقود الثلاثة قبل سقوط الملك فاروق عام 1952، تخرج أبى فى مدرسة القضاء الشرعى وأصبح قاضيا شرعيا، ثم دخل مدرسة دار العلوم سعيا نحو مزيد من العلم والمعرفة. لم تعش مدرسة القضاء الشرعى الا عشرين عاما فقط، أغلقتها حكومة الملك عام 1928 بأمر من الإنجليز، الاستعمار يضرب الاتجاه المتقدم فى الدين أو المجتمع بالاتجاه المتخلف فى الأزهر والحكومة، أكمل أبى تعليمه العالى، تخرج فى دار العلوم بتفوق، كان يمكن أن يصبح وزيرا للمعارف لو سار مع التيار ونافق الحكومة والإنجليز، إلا أن شخصيته الموروثة والمكتسبة جعلته يتمرد ويرفض الاستعمار والحكم الملكى، ودفع ثمن حريته غاليا. كثيرا ما يواجهنى هذا السؤال: لماذا يتمرد الإنسان ضد الظلم أو لماذا يقبل الظلم؟ أصبحنا نعرف اليوم أن ال«د. إن . إيه» يمثل قوة كبيرة فى أجسامنا، يتكون من ثلاثة بلايين وحدة ترسم خريطة الجينات، أو الجينوم، تكتسب معناها فقط فى إطار حياتنا وأجسامنا وعقولنا وتاريخنا فى الماضى والحاضر، لا يمكن أن يكون لها معنى دون هذا الإطار. هناك اتجاه جديد فى العالم اليوم يعارض ما يسمى «تكنولوجيا الجينات»، أو الهندسة الوراثية، أو غيرها من المحاولات العلمية التجارية، تحاول استغلال البشر تحت اسم العلم، لا تقل خطورة عن المحاولات السياسية التى تستغل البشر تحت اسم الهوية أو العرق أو المذهب الدينى أو الجنس أو الجنسية أو غيرها. كثر الحديث فى السنين الأخيرة عن الجينوم، عن محاولات لصنع الأجنة الأكثر ذكاء من الأب والأم، كأنما الذكاء أو الابداع العقلى يمكن تفريخه فى المعمل أو الأنبوبة، لكن القدرات العقلية والجسمية أيضا تشمل الكيان الإنسانى كله، ماديا ومعنويا، بيولوجيا ونفسيا وسياسيا واقتصاديا وتاريخيا وغيرها. تلعب الدعاية التجارية والسياسية دورا بارزا فى نشر الخزعبلات العلمية وليس الدينية فحسب، قرأنا الكثير من هذه الدعاية فى الإعلام المحلى والدولى. كانت هناك دعاية تقول: سيكون لك طفل يتمتع بذاكرة قوية عن طريق الجينات، وتكون النتيجة فقدان الذاكرة كليا أو جزئيا، هذه بعض نماذج الدجل العلمى الحديث وما بعد الحديث، منها أيضا الدعاية عن الفياجرا والمقويات الجنسية للعجائز من الرجال، قد يصاب الواحد منهم بهبوط فى القلب ويزف إلى القبر بدلا من العروس الجديدة أو العشيقة. تشكك العلماء والأطباء من ذوى الضمير الحى فى هذه الدعاية الأمريكية- الأوروبية، التى بالغت فى قوة الجينوم، وخدعت الكثيرين من الناس خاصة فى بلادنا، أضافت إلى العنف الاستعمارى العسكرى عنفا آخر فى مجال العلم والوراثة، أحد هؤلاء العلماء هو «بيل ماكيبين» أصدر كتابا جديدا بعنوان: «التمسك بالإنسانية فى عصر الهندسة الوراثية»، كشف فيه عن خطر المبالغة فى قوة الجينوم، إلا أنه فصل بين العوامل البيولوجية الجسدية والعوامل السياسية والاجتماعية والتاريخية فى تكوين الشخصية. اندلع الصراع بين علماء الشركات الرأسمالية والعلماء ذوى الضمير، انتهى الصراع بانتصار أصحاب السلاح والمال والإعلام. حتى اليوم اكتشف العلم 35 ألفاً من الجينات فى جسد الإنسان، أكثرها لا يختلف عن الجينات فى خلايا ذباب الفاكهة، فهل يمكن للذبابة بهذه الآلاف من الجينات أن تبدع عقليا كما يبدع عقل الإنسان؟ هل يمكن للمبدع الرجل أو المبدعة المرأة أن يخلق الأفكار الجديدة بسبب خريطة الجينوم أو تشكيلة البروتين فى ال«د. ان .إيه»؟ هل عقل الإنسان المبدع مجرد جزيئات بروتينية تعوم داخل خلايا المخ؟ لا تزال أغلب وظائف خلايا المخ مجهولة، لم يكشف العلم الا عن 20% من وظائفه، لأن عقل الإنسان ليس فقط لحم المخ، بل أيضا الخبرات والتجارب الاجتماعية التى يعيشها، تؤثر فى تكوين عقله وشخصيته، تربط بين الجسد بالعقل بما يسمى الروح أو النفس وبالمجتمع والماضى والحاضر والمستقبل. أيكون هذا الترابط هو الإبداع؟ ألهذا لم يتطور مخ القرود كما تطور مخ الإنسان رغم التشابه الكبير بين جينات القرود ال35 ألفاً مع جينات الإنسان؟ ألهذا لم يتطور مخ الذباب رغم تشابه الآلاف من الجينات وتشكيلة البروتينات؟ ليس للذباب ذاكرة تاريخية أو علوم اجتماعية، هل يعرف الذباب الماضى أو المستقبل؟ حين كنت طفلة سمعت الرجال فى قريتى يقولون إن مخ البنت أقل من مخ الولد. لكن جدتى الفلاحة كانت أكثر عقلا من رجال قريتها، أدركت أن الله هو العدل تعرفه بالعقل وليس بقراءة النصوص.