السؤال المجتمعى المهم فى قضية التوتر الحدودى السعودى اليمنى يتمثل فى: ما دور القوى السلفية اليمنية، والتى هى من المفترض الحليف الطبيعى للمملكة العربية السعودية؟.. بعبارة أخرى: كيف سمحت هذه القوى التى لها منافذ عديدة على المستوى المذهبى فى الدولتين، للصراع بأن يستمر؟ وما حدود فاعلية الدور السنى السلفى التقليدى كحامى لاستقلال واستقرار اليمن والسعودية تاريخيا؟.. مثلت السلفية فى اليمن واحدة من الجماعات ذات الحضور الفاعل فى المشهد الدعوى، منذ عودة مؤسسها الأول الشيخ مقبل بن هادى الوادعى، قبل ما يقرب من ثلاثة عقود، من السعودية على إثر فتنة الحرم الشهيرة بقيادة جهيمان العتيبى. لكن بعض أبرز رجالات هذه الدعوة وبعض كبار تلامذة الشيخ الوادعى، وبعد مرور عقد واحد فقط، وبسبب اختلاف البيئة الفكرية والدعوية عن بيئة «دماج» - مسقط رأس الوادعى ومنطلق دعوته - أحدثت بدايات تحوّل فى مسار التفكير، وأساليب العمل، بما يتناسب وظروف البيئة الجديدة، التى بزغ فيها أمثال: عبدالمجيد الريمى، ومحمد المهدى، وعقيل المقطرى، وعبدالعزيز الدبعى، وعبدالقادر الشيبانى، ومحمد الحداء، وعبدالله بن غالب الحميرى، وغيرهم. أدرك هؤلاء المساحة الواسعة التى تفصل بيئة الوادعى وذهنية مدرسته عن الواقع وملابساته والمرحلة وتحدياتها كما يعيشها الآن اليمن، مما دعاهم إلى تأسيس إطار مؤسسى يجمع شتات «الدعوة السلفية» وأنصارها، خارج معقلها فى منطقة دماج وبعيداً عن مؤسسها الشيخ الوادعى، فتم إعلان جمعية «الحكمة» اليمنية فى 1990م، كإطار عام يضم شتات السلفيين. تركّزت جهود «الحكمة» فى الرحلة الأولى على النشاط الدعوى والخيرى، وهذا ما نصت عليه الجمعية فى أهداف نشأتها: 1- التعريف بالعقيدة الصحيحة للسلف الصالح، رضى الله عنهم، والتحذير من البدع والخرافات، 2-إنشاء المشاريع الخيرية المختلفة ذات النفع العام، كالمساجد والمعاهد والمدارس والمستوصفات، 3- تقديم المساعدات المختلفة ذات النفع الخاص للمحتاجين، 4- المساهمة فى إبراز التراث الإسلامى، تحقيقًا ونشرًا، 5- التعاون والتنسيق مع الهيئات المحلية والإقليمية والعالمية ذات الأهداف المماثلة. ومع دخول الجمعية المرحلة الثانية والتى تبنت فيها مفهوماً تجميعياً للأمة اليمنية، خاصة فى ضوء اتباع مفاهيم الشيخ محمد المهدى، والذى نجد لديه بشكل أولى، كل المسلمين عدا الشيعة هم من أهل السنة، أما الشيعة فهم ليسوا خارجين عن دائرة الإسلام، فتميزت مقولات الشيخ فيما يتصّل بالزيدية - وهى واحدة من فِرق الشيعة - بالرفق وحسن الظن والدعوة إلى الحوار والمناصحة والتآخى من أجل تحقيق هدف الوحدة والائتلاف، برغم الخلاف. عكس هذا التحول الفقهى تحولا سياسيا برز فى التوجهات الحركية التالية: أولاً: تقارب مع السلطة: فتمت مراجعة الموقف من العلاقة التقليدية بالحاكم، والتى بدت متذبذبة فى فترة سابقة بل كانت تتجه إلى المعارضة أحيانًا. نجد العلاقة فى السنوات الأخيرة أقرب إلى الوفاق مع سياسيات الحزب الحاكم. ولعلّ أبرز شخصية سلفية تمثّل الموقف العام لهذه المدرسة هو الشيخ محمّد المهدى، بوصفه أكثر الشخصيات تفاعلاً مع الحراك السياسى فى البلاد، وأكثرهم حضورًا إعلاميًّا. ثانياً: العداء المشترك للحوثية: فإنه مهما حاول الشيخ المهدى تقديم مسوّغات تهدف للإقناع بأن الدوافع لتلك العلاقة شرعية علمية فحسب، فلا شك أن ثمّة اعتبارات أخرى، أهمها وجوهرها ظهور الفتنة الحوثية فى صعدة بدءا من 16/8/2004، وحتى الآن. شكل هذا الموقف قاسمًا مشتركًا ولقاءً تاريخيًّا بين السلطة التى تخشى انفلات الأمور من قبضتها، والسلفية التى تذكّرت تاريخها العدائى مع الشيعة الإمامية والحوثيين. وقد دشّنت تلك العلاقة رسميًّا باستقبال الرئيس على عبدالله صالح، عدداً من قيادات جمعية الحكمة. وتم تبادل الإشادة بين الطرفين. ثالثاً: تباعد مع المعارضة: إن هذا الموقف تواءم مع السلطة، وصحبه موقف غير ودّى بدرجات متفاوتة مع أحزاب المعارضة. أما الموقف من التعدّدية فغاية ما قد يتحفظ عليه الاجتهاد الجديد فى إطار جمعية الحكمة هو مشروعية قيام أحزاب لا تعتمد مرجعية الإسلام عقيدة لها وشريعة حاكمة فى الفكر والسلوك، بخلاف الموقف من إنشاء الأحزاب الإسلامية، وما هو قريب منها كالأحزاب الوطنية، تلك التى لا تحمل أيديولوجيا مضادة للإسلام. وقد وصف أحد رموز الجمعية لحزب المؤتمر الحاكم بأنه من أهل السنّة بصرف النظر عن أىّ استثناءات لا تغيّر من حقيقة الموقف شيئًا يذكر. فى عبارة أخرى، انقسم السلفيون سياسيا إلى جماعتين، من هم مع القاعدة السنية والحوثيين الإمامية، ومن هم مع النظام الحاكم والعربية السعودية. من هنا تنفتح سبل شرعية تعامل اليمن والسعودية المسلح مع التوتر الحدودى. ويستمر التحليل.