لم يَجُل بخاطرى، الأسبوع الماضى، الدفاع عن أطباء وممرضات وموظفى المعهد القومى للأورام خلال سردى لمشاهدات خبرتها لمرضى يتعرضون للإهمال وسوء المعاملة على أيدى كثيرين منهم - وليس جميعهم - ربما لأننى لم أستسغ أبداً مبرراتهم، وربما لأن للأطباء نقابة تعبر عن مشاكلهم، وللموظفين قدرة على التعبير عن أنفسهم، فعلى الأقل هم متعلمون، بخلاف أولئك المرضى والبسطاء من نزلاء المعهد وغيره من المستشفيات الحكومية، الذين لا يملكون من المال أو الجاه أو العلم ما يدافعون به عن كرامتهم وحياتهم، التى يقدمونها ثمناً لضيق أفق البعض من أسئلتهم. أسوق لكم مثالاً جاء فى رسالة من القارئ ياسر فتحى، الذى اعتاد مرافقة والدته المسنة للمعهد، يقول: «شاهدت سيدة عجوزاً انتهت من الكشف فسلمها الطبيب تقريرا لم تعلم ما بداخله ولم تدر ماذا تفعل، وإلى أين تذهب، فلم تجد سوى غرفة الكمبيوتر (الأرشيف)، فسألت الموظف، فإذا به ينفجر غاضباً فى وجهها وينهرها لمجرد أنها سألته.. ثم ألقى بالتقرير الطبى على الأرض.. لتنحنى العجوز منكسرة وتلتقط الملف فى مشهد مذل». هذا المشهد المذل والصادم حدث ويحدث كل يوم، وتكفى زيارة لأى مستشفى حكومى، فهل تشفع معه أى تبريرات يسوقها هذا الموظف مهما كانت قسوة ظروفه المهنية أو الأسرية؟! وهل تشفع معها شكوى الأطباء من ضعف رواتبهم، وقلة الإمكانيات المتوافرة لديهم؟! قارئ بإمضاء «طبيب» برر الوضع قائلا: «مش عايزين فلوس، الله يخرب بيت الفلوس.. عايزين امن فى المستشفى يحمينا من البلطجية، معمل كويس.. جهاز أشعة، عايزين حد مع المريض الجاهل علشان نفهمه المرض.. عايز مواصلة ترجعنى بيتى محترم، حد يحترمنا»، ثم ختم الطبيب الذى وصف نفسه بأنه «ملاك رحمة سابقاً»: «الدكاترة الطيبين سايبيبن مصر وبيشتغلوا بره، مفضلش إلا الشياطيين، إن كان عاجبكم». أذكر ممرضة تحدثتُ إليها ذات مرة فى المعهد، قالت لى بمرارة وشعور بالظلم، لا يخلوان من تأفف «والله إحنا غلابة، بيورد علينا من العينات دى كل يوم». تقصد بتلك «العينات» عينة المريض «الجاهل»، أو «الأمى»، أو «الساذج»، أو «كثير الأسئلة»، أو «كثير النسيان» أو «ذو الرائحة الكريهة».. إلخ. ومع تفهمى للصعوبات التى تواجهها الممرضات ويعانيها الأطباء، أهمس فى أذنهم وفى أذن القارئ العزيز الغاضب «ملاك رحمة سابقاً»: قدركم أن تحترفوا وظيفة، أقسمتم قبل ممارستها: «أقسم بالله العظيم أن أراقب الله فى مهنتى.. وأن أصون حياة الإنسان فى جميع أدوارها.. فى كل الظروف والأحوال.. وأن أحفظ للناس كرامتهم.. وأن أكون على الدوام من وسائل رحمة الله.. والله على ما أقول شهيد». قدركم إذن أن تلتزموا بميثاق شرف أبوقراط. قدركم أن تحترفوا مهنة لا يمكن فيها إغفال الجانب الإنسانى، مهما كانت قسوة ظروفكم المادية والمهنية والشخصية، بل ومهما كان شكل المريض أو لونه أو رائحته. [email protected]