مع أول أيام إجازة الصيف، يطلق الأطفال والشباب لأنفسهم العنان وينزحون إلى الشوارع، بحثا عن متعة الانطلاق والمرح التى حرموا منها، طوال شهور الدراسة، لكن هذا المرح عادة ما يرتبط بمناوشات ومشاكسات مع الجيران الذين يتضررون من صخب الأطفال. هنا، يتذكر البعض أيام لعبهم الطفولى فى الشارع، وتضررهم الحالى من لعب أطفال الجيران وضوضائهم التى تمتد حتى منتصف الليل. الكاتبة مديحة أبوزيد تقول: أسكن بالدور الأرضى فى حى شعبى، وتصلنى ضوضاء الأطفال بكثافة، فالعشرات منهم يلعبون أمام شباكى ألعابا خطرة، وأحيانا عديمة الفائدة، ولأنى أقيم فى ذلك الحى منذ مراهقتى حيث أسكن شقة والدى حاليا بعد وفاة زوجى، فإننى أعرف هؤلاء الأطفال وعائلاتهم، وأستضيفهم أحيانا فى منزلى، وننظم معا ورشا للرسم وللحكى وقراءة القصص، واللافت أن بعضهم موهوب بالفعل، حتى إننى عرضت رسومهم فى مجلة الهلال للأولاد والبنات، كما نذهب معا لبعض الحفلات والأنشطة الثقافية بساقية الصاوى، فأنا أعتبرهم كأولادى، خاصة أننى لم أرزق بأطفال، وهم يهونون على وحدتى، لكن تأتى أحيان أضيق فيها بصراخهم وصخبهم أثناء اللعب ولكن أعذرهم فى النهاية فليس أمامهم متنفس إلا الشارع، فألجأ لبعض الحيل حينما أريد التركيز فى الكتابة أو العمل، حتى لا أسمعهم.. أدخل مثلا فى الحجرة البعيدة عن الشارع وأغلق النوافذ، أو أضع بأذنى سماعات لسماع بعض الأغانى، ويبدو أننى أدمنت هذا الحى بصخبه، وأصبح جزءاً من تكوينى، وأحيانا، أستغرب هذا الشارع عندما يكون هادئا. لم أكن كثيرة اللعب فى الشارع منذ صغرى، ومررت بواقعة «خلتنى أحرم اللعب فيه»، كنا نسكن الدرب الأحمر، وقتها، وكان هناك رجل يجوب المنطقة بعرائس وأحصنة من الجبس يعطيها للأطفال، مقابل حصوله على الزجاجات الفارغة منهم، وكانت هذه اللعبة تعرف ب«سميحة بالأزايز»، وأثناء لعبى مع صديقتى بالشارع، مر الرجل بعرائسه، وبحثنا فى كل مكان عن زجاجات فارغة فلم نجد سوى فى الفناء الخلفى لمصبغة بالشارع، ولكنها كانت ملآنة، خطفنا زجاجتين وجرينا لمقايضتهما بالعرائس، وإذا بسائل حارق ينسكب من الزجاجتين ويحرق ملابسنا، وجرى وراءنا صاحب المصبغة لينقذنا من ماء النار الموجود بالزجاجات. الشاعر عمارة إبراهيم يقول: عشت طفولتى بقرية صعيدية، كان اللعب فيها مرادفا للترف، الآباء فى قريتنا يسندون لأطفالهم مهاماً تلهيهم عن اللعب، مثل الزراعة ورعاية الحيوانات وإطعامها، ربما كنت محظوظا لأننى ابن كبير القرية، لم أمارس مثل هذه الأعمال ولكننى لم أتمكن من اللعب كما يجب، لكننى كنت أختلس بعض ساعات للعب الكرة فى غفلة منه بالشونة المقابلة لدارنا، وكان نصيبى بعدها التوبيخ، خاصة أننى كنت طفلاً متمرداً بطبعى، لم نعرف معنى اللعب بالشارع فى قريتنا، الشارع لدى أبناء المدينة يعادل لدينا نحن الريفيين «الخارج»، ربما الغيط مثلا أو الساحة المقابلة للدار، أو جرف الترعة، أو الجرن، وكلها أماكن لعبت فيها، مثلا فى الغيط كنا ندبر المكائد لعم لنا نلف له سجائر تحوى أعواد الكبريت، وبمجرد إشعالها تحرق شاربه الكبير، أيضا كنت أستعرض نضجى أمام بنات مدرستى الإعدادية المشتركة، فأدخن السجائر باستمرار فى كل أركان القرية. الآن، أسكن الدور السابع، ولا يأتينى صخب الشارع، ولكنى لم أسلم من ضوضاء أبناء الجيران، الذين جعلوا من بسطة السلم ساحة للعبهم، أحيانا، أطلب منهم أن يخفضوا الصوت بلا جدوى، والغريب أن هذه الأجيال الجديدة لا تمتلك حساسية كافية لمراعاة مشاعر الآخرين، أذكر فى طفولتى أن نظرة العين كانت تردعنى، أما هؤلاء، فلا يجدى معهم حتى الاعتراض المباشر، وأولادى لم يلعبوا فى الشارع إلا نادرا، وفى صغرهم، كانوا يلعبون بغرفهم، أو بالحدائق والنوادى أثناء نزهاتنا المشتركة . أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس سامية خضر تقول : المصريون لا يقدرون قيمة الوقت، وليست لديهم خطط محكمة للاستفادة منه، لذا فلا مانع لديهم من تسريح أبنائهم بالشوارع للعب أثناء الإجازات، والأولى بالأسرة أن توجه أبناءها للذهاب إلى الساحات الشعبية ومراكز الشباب والمكتبات العامة، وممارسة الرياضة والأنشطة الذهنية المختلفة، وكلها أشياء متاحة وفى متناول الجميع حتى الأسر الأكثر فقرا. الشارع يريح الأسرة مؤقتا من عبء الأبناء وضوضائهم ولكنه مؤذ على المدى البعيد، فيه يتعرفون على السجائر والإدمان والعنف، كما أنه يصنع من مرتاديه شخصيات اتكالية فارغة، لا تميل لتحمل المسؤولية، أو الالتزام، راغبة فى المكاسب السهلة السريعة، عندما تترك الأم ابنها ينام حتى العصر وبعدها يخرج للشارع ويبقى به حتى الليل، فهى تخلق منه فرداً مستهتراً، لن ينجح فى عمله، لأن العمل يتطلب الالتزام وتقديم التضحيات والتنازلات.