قد تبدو لك إسبانيا مجرد دولة أخرى تفوز بالمونديال.. وسترى فرحتها طبيعية جدا مهما كانت عاصفة أو جامحة لأنها فى النهاية تشبه تلك الفرحة التى عاشتها من قبل سبعة بلدان فازت بكأس العالم لكرة القدم.. ولكن إسبانيا فى كرة القدم.. ليست مجرد دولة أخرى.. والفرحة التى تمارسها الآن بلد الفلامنجو والثيران والأندلس والأدباء الكبار والنساء الجميلات.. ليست مجرد فرحة الفوز بكأس العالم لأول مرة.. لكنها فرحة الكبرياء واستعادة الحقوق.. فالإسبان.. أدركوا مساء الأحد الماضى فقط أن كرة القدم ممكن جدا أن تصبح لعبة عادلة بعد أن ظلمتهم كثيرا وطويلا وتركتهم منفيين ومنسيين وبعيدين عن منصات تتويج الكبار.. وربع المليون إسبانى الذين تجمعوا فى قلب مدريد بعد الفوز فى المباراة النهائية على هولندا.. كانوا جميعهم كأنهم أهل متهم فى قاعة محكمة ونطق القاضى أخيرا ببراءته.. وبراءتهم.. فلم يخرجوا من قاعة المحاكمة يهتفون يحيا العدل.. ولكنهم قالوا فيفا إسبانيا.. تعيش إسبانيا.. تحيا إسبانيا.. فإسبانيا لا تحيا وتعيش إلا بكرة القدم.. ولأن مدريد بالنسبة لى.. كانت ولاتزال دائما هى مدينة الحب والفرحة والجنون والحلم.. فقد ذهبت إليها كثيرا ومارست معها وفيها كل ذلك وأصبحت أعرف عن قرب كيف تعيش هذه المدينة الساحرة، وكيف ولماذا تعشق كرة القدم إلى هذا الحد.. ليست مدريد وحدها.. ولكن أيضا برشلونة وفالنسيا وبلباو وإشبيلية ومايوركا وسان سباستيان.. إسبانيا كلها عاشقة لكرة القدم.. لأن الكرة الإسبانية لم تعد مجرد لعبة.. إنما كبرياء وسياسة وهوية وأسلوب حياة.. ولا أنسى أبدا يوم قال لى خوان أنطونيو سامارانش.. رئيس اللجنة الأوليمبية الدولية السابق.. أن الهوى الإنجليزى والولع الفرنسى والجنون الإيطالى والالتزام الألمانى.. هى كلها أشياء عابرة لو قورنت بعلاقة إسبانيا بكرة القدم.. قال لى سامارانش أيضا إن إسبانيا تبقى دولة أوروبية وحيدة يجوز فيها أن تسقط حكومة منتخبة بسبب نتيجة مباراة لكرة القدم.. وتذكرت حوارى مع سامارانش وأنا أقرأ أكثر من تصريح لثاباتيرو، رئيس الوزراء الإسبانى، قبل هذا المونديال الأخير يؤكد فيه أن الفوز بالمونديال هو الأمر الوحيد فى الدنيا الذى يمكن بسببه أن ينسى الإسبان البطالة والإحباط والخوف والأزمة المالية الخانقة.. وعبر التليفون.. جاءنى صوت آنا.. أستاذة الجامعة وعاشقة الرقص والرسم وكرة القدم.. وكانت تقف وسط الألوف فى وسط مدينة مدريد.. ولم تحك لى عن هدف أنييستا.. ولا عن الفوز على هولندا.. ولا مشهد تسلم لاعبى بلادها كأس العالم.. ولا الملكة صوفيا التى كسرت البروتوكول الملكى والنسائى أيضا حين دخلت غرفة خلع ملابس اللاعبين عقب الفوز على الألمان وهم أنصاف عراة.. وإنما كانت آنا تقول لى إنها سعيدة وترقص فى الشارع وتحمل علم بلادها وتتمنى تقبيل أى كرة قدم.. فالمونديال أخيرا جاء للبلد الذى قدم بعضا من أجمل وأعظم نجوم اللعبة فى تاريخها.. البلد الذى قد يكون أفقر بلدان غرب أوروبا لكنه قدم للعالم كله أغنى وأشهر وأكبر ناديين فى العالم كله.. البلد الذى يملك أجمل وأشهر دورى فى العالم وفاز بكل البطولات الكبرى إلا كأس العالم.. والآن يكتمل الحلم ويتحقق العدل.. الآن تفوز إسبانيا بكأس العالم. [email protected]