مباريات التنمية والتقدم بين الأمم هى أيضاً لعبة مثيرة للشغف والحماسة، ولها علم وأصول وقواعد وخطط ومدربون ومديرو فرق واستراتيجيات وتكتيكات، كما تتطلب لاعبين أكفاء وانسجاماً فى الخطوط وجماهير واعية ومؤازرة، شأنها شأن الكرة، وربما كان الخلاف الأساسى بينها وبين الكرة أن مباريات التنمية ليست فيها أهداف «استروبيا»، والسؤال: متى ندخل هذا النوع من المباريات بنفس الإصرار كقيادات وكمواطنين، ونحاسب أنفسنا إذا تخلفنا فيه عن سباق القمة على المستوى الأفريقى والعربى والعالمى، مثلما نحاسب منتخبنا القومى؟ كمشاهد محترف للكرة وك«أكاديمى» مهموم بمشاكل بلاده، وأمضى سنوات طوالاً من عمره فى مراقبة وتحليل عوامل تقدم الأمم، وزيادة تنافسيتها ورفاهيتها، أشير إلى التطور الكبير فى مباريات وصناعة الكرة ومعها المشاهدة ذاتها، التى أصبحت أكثر من مجرد رؤية التسعين دقيقة فى الملعب، إذ باتت تشمل متابعة عمليات التحليل السابقة واللاحقة والمواكبة للمباراة، ومثل تلك التقنيات أمكن استخدامها لزيادة قدرتنا كمحللين للوضع الاقتصادى، وعلى معرفة وتحليل قواعد المنافسة الدولية فيه. تتناول التحليلات والتعليقات الكروية كل صغيرة وكبيرة فى المباريات وما يحيط بها داخل وخارج الملعب، بل زاد من عمق التحليل الكروى ما باتت تقدمه لنا التكنولوجيا الحديثة من قدرة على كشف أخطاء طاقم الحكام، أو كشف أخطائنا نحن كجمهور، حين نتهم الحكام ظلماً فى بعض قراراتهم، وفضح هفوات اللاعبين التى يرتكبونها ظناً أن أحداً لن يراهم فإذا بالكاميرا تعريهم، وأصبحنا قادرين على قياس عدد الكيلومترات التى قطعها اللاعب خلال المباراة، بل عدد السعرات الحرارية التى استهلكها فى المجهود المبذول...إلخ. نفس الشىء بات يحدث على صعيد تحليل ومعاينة تجارب النمو والتنافس التجارى والاقتصادى والاستثمارى فى العالم، ومزايا وعوائق المنافسة العادلة والشفافة، وأسباب فوز أطراف وإخفاق أخرى، ونصيب الجدية من الفوز، وكذا نصيب الحظ والمصادفة، وأصبحت قصة و«أسرار» التقدم مشروحة للجميع وليست كيمياء غامضة. لقد سألنى ويسألنى كثيرون عن معنى التنافسية والترتيب العالمى للدول، الذى يعده منتدى «دافوس» أو جهات أكاديمية أو علمية أخرى، وعادة ما لا أجد أفضل من كرة القدم لشرح المفهوم، بل أدعو إلى استغلال هذا التشابه بين مباراتى الكرة والتنمية فى تنوير الجماهير والقيادات بطبيعة المزاحمة الاقتصادية العالمية الضارية، التى تجرى ألعابها على مدار ال24 ساعة دون توقف، وحول ما يجب عمله ليكون لنا مكان فى ترتيب فرقها الكبرى. تحاول كل دولة أن تنتج سلعاً أو خدمات أكثر وأفضل لتبيعها للآخرين، لكى تزيد بذلك دخلها القومى ونصيبها من الكعكة التى هى الموارد المتاحة من الثروة فى العالم، وتلعب الدول تلك المباراة لتفوز بمركز متقدم فى التصنيفات الدولية، أو لكى تزيح آخرين وتحل محلهم، وقواعد اللعبة معروفة للخبراء، وكل بلد لديه لاعبوه وهم المواطنون كافة، الذين يجب تعليمهم تلك القواعد وتدريبهم جيداًعلى أيدى مدربين، يجب أيضاً أن تحسن الدولة إعدادهم واختيارهم بدقة، وعليهم أن يعملوا بجدية لرفع لياقة الشعب ليكون جاهزاً لمواجهة تحدى الآخرين ولتحقيق النصر، ولدى كل بلد أيضاً مدير للفريق يعرف مقدرة لاعبيه، ويستطيع رسم الخطط المناسبة والاستراتيجيات التى تتيح استغلال المواهب والقدرات الكامنة فى الفريق / الشعب، ويوظف المناسب فى المكان المناسب، ويجب أن يتحلى بقدرة فائقة على شحذ همة فريقه وإعداده معنوياً للدخول فى معارك المباريات، وأن يبدل فى الخطط واللاعبين طبقاً لسير المباراة ولطبيعة الخصم، وأن يكافئ على حسن الأداء والتنفيذ الذكى للخطط، ويعاقب على التقصير. إن الفائز بكأس العالم الأخرى والأهم هذا العام، بلد لم نشاهده فى جنوب أفريقيا إنه: سنغافورة.. بلد صغير لم يكن له وجود على الخرائط من نصف قرن، لكنه تفوق على كل الدول فى تقرير التنافسية العالمية الأخير سابقاً، حتى الولاياتالمتحدة ذاتها. يقيس التقرير الذى يعده معهد تطوير الإدارة بسويسرا 328 مؤشراً ترصد كيفية قيام الدولة بخلق مناخ لإنجاح الأعمال والمحافظة عليه والاستمرار فى النمو القوى. استخدمت سنغافورة كل ما من شأنه أن يجعل فريقاً يفوز بكأس الفيفا. تعلم السنغافوريون من اليابان، التى كانت بدورها قد تعلمت من الغرب، أنه لا مناص عن قيم التقدم السبع (قواعد اللعبة) لأى بلد يريد أن يرتقى، مدركين أنها وإن كانت قد جاءت من الغرب إلا أنها قيم إنسانية عامة، وهى كما عددها المفكر السنغافورى كيشور محبوبانى (تمت ترجمة كتابه الذائع «نصف العالم الآسيوى الجديد» مؤخرا): التعليم، العلم والتكنولوجيا، اقتصاد السوق، الجدارة والكفاءة، ثقافة السلام، احترام القانون، والروح العملية «البراجماتية»، وتبنت كل ذلك فى إطار محكم، وفى ظل مدير فنى ومدرب وخبراء واعين بالمهمة والهدف والأدوات وشعب تقبل التحدى. قال لورد كينز: إن الأصعب ليس خلق القيم الجديدة، ولكن التخلى عن القديم الذى يكبل العقول والأقدام، وبنظرة إلى عملة سنغافورة من فئة 2 دولار سنجد على وجهها صورة مدرسة وطلبة وكلمة التعليم EDUCATION وأظن أن ذلك وحده يختصر كلاماً كثيراً عن الفارق بينهم وبين الآخرين لا داعى لقوله.. جعلت سنغافورة التعليم محوراً أساسياً لنهضتها فى القرن ال21، وسمحت بلا مركزية أكثر للمدارس وخلقت تنافساً بينها، وأشركت المدرسين والنظار والطلبة فى استراتيجيات تطوير الابتكار والإبداع، ولهذا لم يكن غريباً أن تتقدم سنغافورة كل الدول الكبرى فى تقييم الأيكونوميست منذ سنوات لإنجازات الطلبة فى مجال العلوم والرياضيات، وجاءت بعدها اليابان ثم كوريا، واحتلت ألمانيا رقم 22 وفرنسا 23 والولاياتالمتحدة 24. استثمرت سنغافورة أيضاً موقعها، ووظفت النمو الاقتصادى فى آسيا لمصلحتها، مدشنة نفسها مركز مواصلات إقليمياً لا غنى عنه، ومركزاً مالياً مهماً ومعملاً للتكنولوجيا والتعليم الراقى.. إننا بإزاء بلد مكتمل الخطوط واللياقة بكل ما فى الكلمة من معان.. فمتى ننال مثل تلك الكأس؟ * رئيس جامعة النيل