لأن ذكرياتنا هي الدلالة الخالصة على وجودنا قبل الغياب المحتوم؛ سأتذكر وأكتب, حتى إذا ما جاء يوم أردت فيه- أو أراد آخرون- معرفة شيء عن نفسي التائهة؛ قرأنا ما كتبته لأتذكر بعضًا مما كنت! ربما كانت البداية لطفلٍ حزينٍ شغوفٍ بالسؤال, طفلٌ مسكينٌ ينتظر الجواب من السماءِ على أسرارها, لم يكن الحذر حينها قد وَُلِد في قلبه, لذلك لم يخف تحذير أقرانه, بأن يضربه البرقُ الذي يعاقب كل السائلين عن المسكوت عنه؛ بتحويلهم إلى ذرات تراب! بعضنا له قدرٌ من الاختيار فيما يود أن يكون, وأنا من هؤلاء, فعندما وضعت الألعاب بين يديَّ, اخترت لعبة الرواية! حقًا فالرواية لعبة بامتياز, وليس من الملائم أن أعيد ما قيل عن نضالاتها مع أجناس أخرى ذات طبيعة حكائية سردية, حتى تم لها الاستقلال كنوع قائم بذاته دون التقديس في شكله, فالمؤرخون أقدر مني على فعل ذلك ليملأوا بالتأصيل فراغ المعنى, أما أنا فمضروب بالتنقيب عن الناس وعن الحياة الحارة الملغزة في الحكاية التى إن لم يبوح بها الناس؛ باحت بها تعاريج وجوههم التى كم عاركت الزمن ونالت على يديه الكثير من الهزائم! بدأت قصتي مع الحكاية في كُتاب الشيخ "سليمان داوود", وكان لسحرِ جرس الكلمات في أذني, أن يهتف بي؛ إن للكلامِ موسيقي, ترفع بها الحكاية رأسها بزهو للسامعين, أو تخفض رَأسها مهزومة في تعثر, من بين السور كان لحكاية يوسف في نفسي سحرٌ لا يغيب, يوسف صاحب الأحلام, , تفتح له الشمس عيونها وتكحله أستار الليل, ليمعن في السير نحو مصيره, من صحرائه القاحلة يسقطه القدر في الجب حيث السيارة الموعودين بالتقاطه, ومن الجب إلى مصر حيث خزائن الأرض وتحقيق رؤياه, طريق يوسف الوعرة مغزى لحياتي, بأن وقت الكشف, حتمًا ما يخرجُ المأسور من جب المتاهة, حين يكشف المخبوء وعده بالرؤية الكاملة لي أنا الكظيم! في ذلك اليوم ضُربت بصعق الوجد الآسر للحكاية وللموسيقى في الآيات, التى كان لجرسها رنين السحر والشغف في آن! أتذكر وأنا خارج من الكُتاب يضرب الشغف قلبي, صنعت من قش الحصاد المكوم فوق الأسطح, حصانًا سميته الرماح, ظللت أركض به وألف الشوارع والأزقة, أحفظ صور الوجوه وشمًا أغرسه في قلب الحكاية, كذلك صور البيوت الطينية رطبة النسمات وقت القيظ, الدافئة بالمحبة وقت البرد, وقبل أن يهدني اللف ويضربني الجوع, كنت قد أمسكت بأول حكاية لي في حياتي. سألت أقراني لِمَ اسم قريتنا "ميت خاقان"؟ وبعد أن ابتلع الصمت شغفهم بالجواب, قلت إنه في صباح ذلك اليوم لم تكن بلدتنا قد سميت بعد, ومن أراد القدوم لنا, كان يشير إلى البلدة كبقعة مجهولة, في ذلك اليوم البعيد؛ كانت السماء معبأة بالغمام, والخاقان القادم من أعلى البلاد يحذر فرسانه من الإبطاء خوفًا من مطر داهم, ثلاث ساعات وجنوده على ظهور خيولهم, متمنين ولو دقيقة للراحة, مائة فارس خلفه يسابقون الريح دون القدرة على مسح عرقهم أو حتى مسح وجوههم من تراب أحدثته حواف خيولهم المنهكة بالركض, وعندما ضاق الطريق وابتل التراب بعرق الخيول المتعبة, كان الشيخ علام المرتدي جلبابه المهلهل يختبئ بين البوص الأخضر ويعد المارين من الفرسان المرتدين الخوذات اللامعة, حتى وصل العدد مائة, وعندما ابتعد رَكبُ الجنود, امتطي الشيخ علام أتانه العجوزة, ليضرب بكفه على بيبان الدور ويصيح: - يا ناس, رأيت الفتح ابن خاقان وخلفه مائة خاقان من أتباعه, سلمت عليه كف بكف, وسقاني شايًا والله! فرد عليه أحد المنسيين: مائة خاقان, أنت كاذبُ! لشهر كامل تكلم كل من في البلدة, بالكلمة"مائة خاقان" وعندما وصل ما حدث للفتح ابن خاقان الحاكم الجديد على قُطر شبين, كان أول قرار وقعه على الرقاع؛ أن تسمى البلدة التى لم يكن لها اسم "مائة خاقان" لتتحول بالعامية المصرية إلى ميت خاقان! فزت يومها بتناول الغداء المسروق من بيوت أصحابه دون المشاركة بشيء غير الحكاية الملونة بالكذب الأبيض! يومها ضربني السرور, وبدأت حلقات حكاياتنا التي نصبوني فيها سيدًا, لأصاحب الجن الذي خر يركع لي وينفذ حلمي بأن أطير كما العصفور في السماء كي أرى البحر الواسع الذي يحضن الدنيا البعيدة, ورغم أني لم أر جنيًا لكن السماء المفتوحة أبوابها على دعائي الطيب؛ استجابت, فقد سافرت مكرمًا من أجل الحكاية, لأبدأ مشاوير بحثي في الدنيا وكل همي العثور على حكاية! صالح| (مُحَالٌ: مَا مَضَى لاَ يَعُود) (مقطع من رواية سيرة الزوال) فور رؤيتي للمركب البعيد؛ نَزَعتْ يدي غصن شجرة، لوحت به مستغيثًا... بدا المركب ثابتا في سيره, ثم انحرف بالقرب من الجسر الواهن الذي وقفت عليه محاذرًا, مدوا لي فلق جذع نخلٍ؛ وضعت قدمي عليه والتفت مودعًا المكان الذي لم أر غيره في حياتي. رجلٌ نحيل مد يده فتلقفتها وصعدت. حركت رأسي في خجل محييًا؛ فأفسح رجلان لجسدي مكانًا بينهم, فَغِبْتُ أَنْعى حَالِي: كيف أمسيت يتيم الأم والأب؟! غرقا بالفيضان بعد أن بنينا جميعًا حاجزًا من أحجار وطين وخشب وعشب؛ خوفًا من فيضان النيل الحولي، بعد مشقة أنهينا عملنا، انسللت من أبي إلى أعلى شجرة الجميز؛ أنفخ من شجني في الناي, وأُقَلِبُ عيني في سماء الله أَرقُبُ نجوم الليل, كنت متعبًا فأخذني النوم. صحوت من لسعةِ شمسٍ؛ لأرى الماء وقد غمر نصف جذع الجميزة. أطاح سيل الفيضان الغزير بالحاجز الذي لم يجد نفعًا، ضرب الماء جدران الدار وتدفق مغرقًا ما فيها، رأيت الموت على كل شيء وقد أنشب مخالب الفناء على صفحات النهر، كل شيء ميت يطفو فوق الماء: الدجاج، الديك المؤذن، الخراف، الكبش الأقرن الكبير، القطط الوليدة، الأرنبة البيضاء وأولادها، الكلب الأسود العجوز، الحمار الماكر الذي طالما طرحني أرضًا كلما حاولت ركوبه، أذهلتني سَكِينَةُ الموت عن نفسي... تدليت عن الجميزة فغمرني الماء حتى فخذيَّ، نزعت قميصي وتلفعته، ناديت أمي وأبي ما جاءني غير ضرب الماء والصدى، فرع شجرة ضخم سقط على واجهة الدار فهدمها، حاولت إزاحته فما استطعت، بأطراف أغصانه اشتبكت جثة أمي طافية، ذهب عنها لون وجهها الخمري و بسمتها البشوش، بيد أن قسمات الحنو التي أشبعتني ظلت كما هي، فرع الشجرة الساقط على جسدها أدماها فامتص جلبابها دمها حتى آخر خيط فيه، نحيت الفرع عنها، هذه قدمها، هذه يدها، خلصتها بكتفي ويدي وحملتها صاعدًا الربوة الناجية، أرحتها على الأرض وجلست قرب رأسها، أخذت كفها الدقيقة بكفي المسود, وانحنيت على صدرها أتوسل إليها أن تنهض من أجلي لكنها ظلت صامتة؛ فغِبْتُ أَنْعى حَالِي. الرجل الذي أصعدني إلى المركب لا يقر بمكان، يهرول من مقدمته إلى مؤخرته، يتأمل أعلى الشراع ويكر راجعًا للحبال المقيدة بالمؤخرة على القرص الكبير، يرخي حبلاً أو يشده بحنكة ودراية. على غير توقع لمع برق واختفت الشمس وراء غيم داهم، خفت من المطر، أمس أغرقني مطر جنوني وأنا أحفر قبر أمي، ذابت عذوبة قطرات المطر في مِلْحِ دمع عيني, ولم أعرف أأمسح دمعي أم قطرات المطر؟ جسد أمي يرتاح بطوله على الأرض، برفق سللتُ من رقبتها عقدها الذي ورثته عن جدتي، كانت مرتدية جلبابين، مرتجفًا نزعتهما وجففتهما ثم كفنتها بأحدهما، ولم أستطع ترك الآخر فضممته إلى حضني، وبيدي وضعتها في لحدها الصغير الذى حفرته بكل ما طالته يداي، قبلت جبينها وسترت وجهها بمنديل عرسها الذى طالما أرتني إياه, وأهلت الثرى, وبحد حجر صلد نحت وجهًا يشبهها في جذع الجميزة الذي لم يصله الماء، ولأني لم أتعلم الكتابة ولا أعرف حرفًا؛ خربشت تحت الوجه خطوطًا متداخلة أملاها عليَّ حزني لا أحد غيري سيفهم معناها بعدها اتجهت إلى صندوق طعامنا، سحبته من بين فروع الأشجار، أخذت ما تبقى فيه: بضعة أرغفة خبز لينة، وقطع جبن، وبعضًا من أعشاب كنا نتداوى بها, وغِبْتُ أَنْعى حَالِي خالفت السماء ظني سامح الله ظني وأشرقت الدنيا مجدَّدًا دون مطر؛ فمددت جسدي المتكور كقبضة يد، واستندت إلى جدار المركب وأرحت جسدي، صاح ولدٌ مليحٌ واقفٌ جوار الحبال المكتفة بالقرص الحديدي الهائل؛ فهرول الرجل وجعل يشد الحبل بكل جهده منحنيًا لجانب المركب، صاح الصبي: كفى يا أبي أبي! كلمة لن أنطقها أبدًا، إذ من أنادي بها؟! بحثت عنه في كل مكان، في كل شبر على الجزيرة... دون جدوى، كل الأماكن غارقة. ---------- * هاني القط: روائي وقاص مصري، صدر له: مدن الانتظار(قصص). سماء قريبة(قصص) لا شيء فى المدى(قصص) كتب السيناريو لثلاثة أفلام تسجيلية (الفواخرية/ العازف / ظل النخيل) -------- إبراهيم عبد المجيد http://almashhad.net/Articles/992661.aspx سعيد نوح http://almashhad.net/Articles/992663.aspx صبحي موسى http://almashhad.net/Articles/992666.aspx عمار علي حسن http://almashhad.net/Articles/992669.aspx ماهر مهران http://almashhad.net/Articles/992673.aspx محسن يونس http://almashhad.net/Articles/992676.asp وحيد الطويلة http://almashhad.net/Articles/992680.aspx أنهار الرواية المصرية .. ملف خاص (شهادات ونصوص ل 8 روائيين)