كتب غونتر غراس بآخر قطرات حبر شيخوخته قصيدة 'ما يجب ان يُقال'، فارتفع الصراخ في كل مكان. هل يعني هذا ان كيمياء الشعر لا تزال تمتلك هذه القدرة العجيبة على اثارة المشاعر؟ اتمنى ذلك، لكن اغلب الظن ان ما أثار هذه الحملة العنيفة على الروائي الألماني لم يكن كيمياء الشعر بل كيمياء الضمير الانساني. وهنا تقع المفارقة الاخلاقية الاسرائيلية. مؤلف 'الطبل' لم يقل سوى البديهيات، ولكن لأن اسرائيل يجب ان توضع فوق الأخلاق وفوق البديهيات، تحولت قصيدة عادية وبسيطة الى حدث سياسي وثقافي كبير. سيل التعليقات الاسرائيلية يكاد لا ينتهي، من المؤرخ والصحافي توم سيغيف الى بنيامين نتانياهو، وصولا الى'فتوى' وزير الداخلية الاسرائيلي ايلي يشاي باعلان غراس شخصا غير مرغوب فيه في اسرائيل. كما ان ردود الفعل على القصيدة احتلت صفحات الصحف الأوروبية والامريكية الكبرى، كأن غراس لم يكتب قصيدة، بل القى حجرا في بركة راكدة، وكأن مجرد التذكير بأن اسرائيل هي من يمتلك الترسانة النووية في المنطقة وليس ايران، جريمة لا تغتفر! الدخول في مناقشة تفاصيل الردود لا يعنيني الا بوصفه مؤشرا ثقافياً سياسياً على واقع ثقافي اوروبي/اسرائيلي تبدو ملامحه شديدة البساطة والوضوح. انه التواطؤ بين الصمت والابتزاز. الوعي الأوروبي الملّوث بالجريمة النازية الوحشية، يقود ليس فقط الى الصمت عن جرائم اسرائيل بل الى دعمها، والابتزاز الاسرائيلي يشتري هذا الصمت بالانتماء 'الأخلاقي' والسياسي الى الغرب الديموقراطي. لعبة سبق لحزب العمل ان اتقنها في السابق بشكل مدهش، ولكنها بدأت تتفكك جزئيا مع اليمين الاسرائيلي المتطرف الذي اطاح القاعدة اللغوية التي ارساها بن غوريون، مع المحافظة على جوهر المشروع. المسألة ليست في سذاجة تعليق توم سيغيف الذي ادعى ان اسرائيل بعكس ايران لم تهدد يوما بازالة دولة ما عن الخريطة. فكلام سيغيف صحيح ومخادع، الصحيح فيه هو الشكل، اما الخداع فهو المضمون. اسرائيل لم تقل انها سوف تزيل فلسطين عن الخريطة، لكنها ازالتها بالفعل عام 48، وهي تستكمل اليوم في الضفة الغربية عملية التطهير العرقي التي بدأت في حرب النكبة، وتؤسس لنظام 'ابارتهايد'. لكن المسألة ليست هنا، بل هي في هذا الحائط المقفل بالتواطؤ والصمت الذي يمنع النقاش. غرابة الحملة على غونتر غراس تتخذ شكلها الأكثر عنفا عبر تذكير الكاتب الألماني بتاريخه مع 'الأس أس'، حين كان فتى في الخامسة عشرة. والغريب ان يتناسى الجميع ان هذا الكاتب الشجاع هو من كشف هذا السر في مذكراته، عندما 'قشّر بصلة' حياته، ولولا هذه المذكرات، لما استطاع المحللون الاسرائيليون ان يتكئوا على هذه الحكاية في هجومهم. كان غراس شجاعا عندما اعترف بذنبه، وهي شجاعة تفتقدها الثقافة الاسرائيلية السائدة، التي لا تزال تقدّس 'البالماخ' وهي وحدات النخبة في 'الهاغاناه'، التي كانت مسؤولة عن الكثير من المجازر وعمليات التطهير العرقي في فلسطين. لا اريد ان اسقط في فخ المقارنة الذي لا معنى له، لكنني اريد الاشارة فقط الى الفرق الشاسع بين شجاعة المثقف الحر وبين جبن المثقف الذي صار اسير ايديولوجية قومية مقفلة. ما سرّ الحملة على قصيدة تبدو في ترجمتها الانكليزية اشبه بمقال؟ ( للأسف فأنا لا استطيع ان اقرأ النص الألماني). جريمة الكاتب الألماني هي انه ادان وبعبارات قوية الترسانة النووية الاسرائيلية. لنفترض ان الرجل كتب قصيدته عن القنبلة النووية الباكستانية او الهندية او الى آخره... هل كانت ستقوم ضجة تحوّل النص الى حدث؟ بالتأكيد لا. الضجة من اجل اسرائيل، ومن اجلها فقط. وهي نتاج السخرية والكلبية الاوروبيتين. الاوروبيون الذين حققوا في الزمن النازي الأسود 'الحل النهائي' للمسألة اليهودية في قارتهم، لم يعودوا يملكون سوى الصمت. الشعور بالذنب والعار ضروري وصحي واخلاقي، اما الصمت فهو نقل للعار من طور الى آخر. لم يفهم اغلبية المثقفين العرب سر صمت جان بول سارتر، مثلما لم يفهموا سر القراءة السيكولوجية السائدة لمواقف جان جينيه. هذا الصمت هو ابن تلك الجريمة، وكان ممكنا عندما كانت اسرائيل تتكلم لغة السلام والضعف، وتتنعّج وهي تسحق سكان فلسطين الأصليين. اسرائيل بانتهازية اخلاقية لا مثيل لها اعلنت انها جزء من اوروبا في المشرق العربي، وكان هذا كافيا كي يأتلف الصمت الاوروبي بالابتزاز الصهيوني، ويقيما خيمة ثقافية محكمة تحمي الدولة العبرية. لكن الزمن بدأ يتغير، والتغير اصاب اساسا طرفي المعادلة المحلية. الخطاب الاسرائيلي ذهب الى اقصى اليمين في مشروعه الاستيطاني وفي رفضه للحد الأدنى لحقّ ضحيته في دولة مستقلة، والفلسطينيون استعادوا اسمهم على الأقل، ويبدون اليوم، رغم تخبطهم، على حقيقتهم بوصفهم الضحية. وفي هذه المعادلة الجديدة لم يعد الصمت ممكنا الا بوصفه مشاركة في الجريمة. فضيلة غونتر غراس انه اعلن هذه الحقيقة البسيطة. قال البديهية التي كشفها اسرائيلي اسمه مردخاي فعنونو عام 1986، عندما اعلن بالوثائق والصور حقيقة الترسانة النووية الاسرائيلية في الصحافة البريطانية، ودفع ثمن ذلك ستة عشر عاما في السجون الاسرائيلية. لا جديد في كلام غونتر غراس، المسألة الوحيدة هي ان هذا الكلام يصدر عن كاتب الماني شجاع وكبير نال جائزة نوبل للأدب عام 1999، ويستحق التحية والتقدير، وانه يشكل اختراقا للتواطؤ المستمر منذ اكثر من ستين عاما. كل ما في الأمر ان خيمة الصمت بدأت تتشقق، لذا يلجأ اصدقاء اسرائيل الى اقصى اشكال الابتزاز، ولكن بعد فوات الأوان. --------------------- نقلا عن القدس العربي