في أواخر أبريل، تلقيت اتصاليْن هاتفييْن من مواطنيْن مصرييْن مقيمان داخل المملكة العربية السعودية لا علاقة لكل منهما بالآخر، خرجتُ منهما بتأكيد جديد لرأيي السابق أن الحنين إلى الوطن الجاري في غالبية دماء المصريين المُقيمين في الخارج، يتنازعه أحياناً السعي وراء العيش لدى القليل منهم، لتعلو المصالح الخاصة لتلك النوعية على حساب مصر وشعبها بل ومستقبل أولادهم وأحفادهم! كان الاتصال الأول من ربة منزل مصرية على أعتاب الثلاثينات، تقيم في مكةالمكرمة منذ نوفمبر الماضي مع زوجها المهندس المصري العامل في إحدى الشركات القائمة على توسعات الحرم المَكِّي الجديدة، وأخبرتني فيه أنها أتت إلى القاهرة في زيارة مؤقتة لظروف عائلية وأنها لن تستطيع انتخاب المرشَّح الذي تؤيده في الانتخابات الرئاسية لأنها ستعود إلى مكة قبل انتخابات الجولة الأولى في داخل مصر، وأنها غير مقيدة في جداول المصريين المقيمين بالخارج مما يمنعها من التصويت في القنصلية المصرية بجدة، فهي وزوجها لم يُقيِّدا إسميهما في جداول المصريين المقيمين بالمملكة على الرغم من أن القيد كان يتم في يُسر بإرسال الطلب عبر البريد إلكتروني إلى السفارة المصرية بالرياض مرفق به صورة جواز السفر المُميكن، وبالتالي أيضاً تخاذلا ولم يدلوا بصوتيهما في الاستفتاء على التعديلات الدستورية الأخير! وأخَذَت في تعداد محاسن مرشحها ومساويء المرشح المنافس له بشكل استفزني لأسألها عن أسباب إهمالهما في القيد بجداول المصريين في السعودية، فكانت الإجابات المرصعة بحجج واهية غير مُقنعة تحاول أن ترضي بها ضميرها فحسب! وكان الاتصال الثاني من محاسب مصري في منتصف العشرينات، يُقيم بالمنطقة الشرقية داخل المملكة، حرص على تسجيل اسمه وزوجته في جداول المصريين في الخارج منذ ديسمبر الماضي، وكان يشتكي في اتصاله من صعوبة انتقالهما للتصويت إلى مقر السفارة المصرية بالرياض لمسافة تزيد على الأربعمائة كيلو متر مُستغرقة ساعات، مؤكداً أن بُعد المسافة لن يثنيهما عن السفر والإدلاء بصوتيهما مثلما فعلا في الاستفتاء على التعديلات الدستورية، وأن اتصاله لي كان على سبيل الفضفضة، مُبرزاً تأييده لأحد المرشحيْن في تلك الانتخابات، والذي أفصحت الصدفة أن يكون ذات المرشَّح الذي تؤيده السيدة المتخاذلة في السابق! وكأن لجنة الانتخابات الرئاسية علمت بحال المتصليْن، فأصدرت قراراً واعياً بالسماح بتصويت المصريين في الخارج ببطاقة الرقم القومي وليس بجواز السفر فقط، مما يسمح للسيدة بالإدلاء بصوتها ببطاقتها. كما أجازت تصويتهم في أي مقر انتخابي ولو في دولة أخرى غير دولة إقامتهم، مما يسمح للرجل المقيم في المنطقة الشرقية أن يركب بسيارته الجسر الواصل بين السعودية والبحرين في أقل من ساعة ليدلي بصوته بمقر السفارة المصرية هناك. وأخذني الفضول إلى معرفة نتائج القرار على كليهما بعد أن انتهى التصويت الخارجي أول أمس، فعلمت أن الرجل سافر وزوجته في نزهة إلى سفارة مصر بالمنامة لينتخب مستقبلاً جديداً، وحزنت على السيدة المذكورة لأن حماسها لمرشحها ولمستقبلها وأبنائها الذين لم يأتوا بعد كان أقل أهمية من خصم أجر يوم لزوجها أو جمع المال الذي تركا من أجله الأهل والوطن، على الرغم من عودتها إلى مكة أيام التصويت، وقصر المسافة بين مسكنها المتواضع في مكة ومقر القنصلية بجدة، حتى أن أكثر الفتاوى الشرعية في إفطار الصائم وقصر الصلاة لا تعتبر المسافة بين مكةوجدة مسافة سفر. بل لأكتشف مأساتيْن أخرييْن أولاهما أنها تُتاجر في الخفاء دون إذن من السلطات السعودية فيما أسمته فن الرسم بالنار وبيع لوحاتها مُستحلة أرباحها في مشهد يُعيد إلى ذاكرتنا متاجرة الإخوان ومن والاهم بالذين، وثانيهما أنها لم تنزل مع المصريين في الثلاثين من يونيو رغم وجودها في القاهرة حينئذ وعلى مسافة قصيرة من قصر الاتحادية، فأدركت أنها أقنعة جديدة تظهر من البعض تباعاً في طريق العودة إلى الوطن الحلم، وهو الفرق الشاسع بين المتحاملين على رزقهم في سبيل أحلامهم وأولادهم من بعد، وبين المتخاذلين في سبيل حصد المصالح المالية أو غيرها، فهم المُقنَّعون المتلونون وفق أغراضهم وأهوائهم، إنها نماذج بين المصريين في الخارج أكثرها مُشرقة وأقلها محبطة تعيش في الظل تقتات على إرادة الآخرين وجهدهم! [email protected]