عشية الرابع عشر من يناير 2011, كنت عائدا مرهقا من رحلة صحافية طويلة من الخرطوم الى دبي, مرميا على سريري فيما يشبه الاغماءة , وبجانبي كيس فاكهة كلما افقت سحبت منه ثمرة, فجأة فتحت عيني على شاشة قناة الجزيرة ومذيعها يقول ...علمت الجزيرة ان الرئيس التونسي زين العابدين بن علي قد غادر تونس الى مكان غير معلوم.زلزلزل الخبر وجداني رغم كل متاعبي, وايقظ في داخلي صحوة جديدة واصلت جذوتها اشعالا لشيء داخلي , كما الملايين حتى سنوات ثلاث تالية . فقد غادرت مصر الى دبي عام 2002, وعمري 43 عاما , منها عقد في تجربة ثورية يسارية مرهقة ومهزومة , وعقد آخر في تجربة صحافية نصف مقاومة ونصف محبطة , وبدى لي وانا اركب الطائرة , ان الطريق الامثل للحفاظ على ما تبقى من امل هو اغلاق صدري علي اهدابه , وعدم تعريضه للرياح كانت دبي , العاصمة العربية للعولمة , مكانا لنوع آخر من الحياة , تكاد تسلم فيها ملابسك ومشاكلك ومفاهيمك وافكارك واحاسيسك القديمة البالية , وتستلم مكانها حزمة بديلة تماما , ابسط عنواينها انها الاكثر مواءمة للعصر الذي نعيش فيه. زلزل صوت الجزيرة , وجدان وجداني . ماذا ؟؟رحل؟؟. طاغية تونس رحل ؟؟. وهل حكامنا يرحلون ,, ان لا يقول حازم صاغية –ان منطقتنا تحكمها انظمة لاترحل؟؟. كان لدي احساسا ان شيئا ما خطأ في القصة . ربما غيرة اجيال هرمت في هزيمتها فوصل تشوهها انها لم تعد تحب (الخير الثوري) لاجيال من بعدها ..فيضيف هذا دليلا جديدا على خيبتها . ربما عقد ايدلوجية ,, مفادها انه بما ان اليسار الثوري هزم وسحق وتدشدش على يد الدولة البوليسية فلماذا يتمكن الآخرون من المقاومة والانتصار . ربما رغبة في استمراء الضعف بوصفه الاكثر امانا من تكرار الصدام ,, اشياء كثيرة باغتتني للحظات , لكن جذوة الثورة والقها وبهجتها ومشهد الصبايا التونسيات يهتفن للحلم , وتوالي مشاهد وابداعات الملائكية الثورية بددت في كل هذا في ثوان , وجعلته اشبه بوسوسة شيطان يطردها سطر –مجرد سطر من هتافات (الشعب يريد), سرعان ما رسخها اكثر فاكثر تضافر الحلم الثوري مع التونسي وولادة ال25من يناير وميدان التحرير وال18 يوم , والذي وجدت نفسي طائرا اليه ذائبا فيه , مع الرفيق مصطفى الحفناوي, لنعيش ايام عرف حلوها الخاص كل مصري حقيقي , ازعم انه سبصم باصابعه العشرة على وصفي لها بانها ( ايام مقتطعة من زمن الجنة ). اليوم بعد مرور 3 سنوات ,, اين ذهبت , واي ارض انشقت وبلعت , هذه " الغفوة الحلوة " من الزمان؟؟. سيقول محللون , انها لم تكن ثورة , او انها كانت نصف ثورة , او ثورة سياسية فوقية , او مجرد انتفاضة, او هبة , او حلم ليلة صيف. سيقول استراتجيون , انها كانت انقلاب قصر, او التفافة عسكر , او خلطة من انقلاب على ثورة برتقالية, او مزيج من هذا كله على لمسة ثورة شعبية . سيقول متابعون انها تحالفات مستحيلة بين عسكر ونشطاء ان جي او اس وممولون وسلفيون واخوان وثوار وتجار وليبرال وابرار وفار , وكان لابد ان تنتهي الى حارة مسدودة . سيقول منظرون يساريون كتبيون , ان الثورة انقلاب طبقات , وتغيير اجتماعي اقتصادي , وحزب قوى ثورية ذات رؤية ومصالح وافق . ليكن كل هذا , لكن الاوضح , اننا حلمنا ,, واننا استيقظنا فلم يتبق من الحلم سوى تبين ملامحه. نحن حلمنا ,, اننا عرفنا نتحرك ملايينا الى التحرير , بعد ان ظللنا 60 عاما , تعرف الدولة البوليسية كيف تحركنا آحادا على خط مرسوم على الارض بالطباشير الى طرقات الزنازين. نحن حلمنا ,, اننا نعرف كيف نهتف , بعد ان ظللنا عقودا نعتقد ان السنتنا التصقت بسقف حلوقنا بيولوجيا . نحن حلمنا اننا نحدد الصفحة الاولى من كتاب مطالبنا الثورية , ونطقنا عيش حرية كرامة عدالة اجتماعية , بعد ان ظللنا عقدين قبلها نهذي ونشعوذ, ورغم اانا ظللنا بعدها 3 سنوات لم نتقدم خطوة في تحقيق شيء منها. نحن حلمنا اننا انتصرنا ضد التوريث والقمع , وشاهدنا ما كيتات وهمية لسقوط تجسداتهما , رغم ان المكسب الوحيد الذي حققناه في وقف التوريث هو حرمان جمال مبارك من عرش ابيه , بينما التوريث تواصل في القضاء والاعلام وجريدة الاهرام وحتى الفن , وبينما القمع اختلف اسمه فقط من أمن الدولة الى الأمن الوطني. احنا اسفين ياثورة , فبعد ان ظننا اننا عشناكي , اكتشفنا اننا حلمناكي . لكن على اية حال هذا ليس قليلا , فقد حلمناكي صوتا وصورة , وليس مجرد نص, كما اننا خلنا النموذج , وتخيلنا الافق .. ولجولة اخرى ,, بعضها حلم وبعضها علم , قد تقدمنا او تعيدنا ثم تقدمنا المهم ان نحركها وتحركنا " احنا جاهزين ياثورة