"الطيورُ ... الطيور.. تحتوي الأرض جثمانها في السقوط الأخير.. والطيور التي لاتطير... طوت الريش واستسلمت.. هل ترى علمت أن عمر الجناح قصير.. قصير!”.. هكذا قال أمل دنقل ضمن قصيدته الطيور فى إشارة شديدة التعبير عمن يرفض العبودية فيعيش حرًا حتى وإن كان معذبًا فى حياته، مقابل من يقبل بالرضوخ فيعيش سجينًا أمنًا وما بينهما اختلاف كبير يعبر عن قيمة الحياة وقيمة الحرية، فى مقاربة تتشابه مع تلك التى تطرح دومًا التساؤل حول الفارق بين الحياة الآمنة للشاه الحبيسة والأسد الطليق فى البرية. ورغم أن الرضوخ فى الحياة للحيوان يعنى أحيانا جزءًا من استمرار الحياة ورضوخًا لأصل الاشياء وسمات الأنواع، فإن العبودية ليست أصل الإنسان عندما تكون فى علاقته بغيره من البشر، كما أنها تحمل معناها الخاص فيما يتعلق بالعبادة، ولكن البعض لا يستطيع القبول بغير العبودية، والبعض لا يستطيع العيش بغير تأسيس العبودية لاستمرار سيطرته على غيره من البشر.. ولا يعد تأسيس العبودية إلا كرهًا للحياة فى قيمتها الأساسية وترسيخًا للبشر من أجل خدمة أهداف ومصالح أخرى لا تعنيهم شخصيًا ولا تقوم إلا على الانتقاص من قدرهم وقيمتهم وقيمة حياتهم فيتحول البشر لأشياء ووسائل لدى البعض لتحقيق مصالحهم وسيطرتهم، ومن يقوم بهذا الفعل بالنسبة لى هم أعداء للحياة نفسها وأفكارهم شديدة الخطورة والإيذاء فى هذا السياق. كنت أتساءل وغيرى عن حجم العنف الذى يوجد فى المشهد، نتساءل عن فرد الأمن التابع للشرطة أو الجندى التابع للقوات المسلحة الذى قبل استخدام العنف ضد غيره من أبناء الوطن، كنت أتساءل عن الأسباب التى أنتجت هذا العنف.. ولكن على هامش العنف الممارس نجد أنفسنا أمام عنف آخر لا يقل خطورة عن عنف الفعل وقد يزيد عليه فى التأثير والأثر.. والعنف المقصود هنا هو العنف الفكرى أو الأفكار المبنية والمؤسسة على العنف والتى يتم نشرها وترويجها تحت دعاوى مختلفة بهدف الانتشار والوصول لفئات متنوعة من الجماهير وهو ما يزيد من خطورتها، خاصة مع احتمال تبنى البعض لها وتحويلهم تلك الأفكار إلى عنف ممارس.. ولا يمكن التقليل من خطورة رسائل العنف العديدة فى المشهد والتى يسميها البعض أحيانا تحريضًا ضد الثورة أو ضد الثوار والتى أرى أنها تحولت إلى صورة أكبر من العنف ضد الحياة ذاتها، وتأسيس لحالة العبودية والاستعباد القائمة فى المشهد لعقود.. ولكن بدلًا من الخطاب المباشر الذى كان يتم التركيز عليه واستخدامه عن المستبد العادل والاستبداد مقابل الفوضى بدأت تلك القوى تأخذ اتجاه تأسيس العنف من خلال ترسيخ كره الثورة والتركيز على سلبياتها وربطها بالعديد من الأفكار والممارسات السلبية ووصف الداعين لها والمدافعين عنها بالعديد من الصفات التى من شأنها أن تجذب أنماطًا مختلفة من الداعمين والمؤيدين لتلك الأفكار العنيفة.
وخلال السنوات الماضية عانى العالم من الإرهاب ومازال يعانى منه هنا وهناك تحت أسس مختلفة تتفق جميعها فى بث الكراهية والتقليل من قيمة الحياة، حيث تستهدف الحياة الآمنة للبشر وتهدف إلى الترويع ونشر الرعب من أجل تقويض أسس الحياة.. ولعل النظر بعمق فى الخطاب الذى يعتمد عليه الإرهاب سيؤكد أن تلك الأفكار فى النهاية تقوم على التهميش من قيمة حياة أفراد أو جماعة ما مقابل قيمة الفكرة أو الرسالة التى ترغب الجهة التى تمارس الإرهاب فى بثها والترويج لها.. تختلف الجماعات فى المبررات التى تقدمها لممارساتها الإرهابية، وتختلف فى الجماعات أو الفئات التى تستهدفها أو الأماكن التى توجه أعمالها ضدها ولكنها تتفق فى تهميش حياة من يموت والتقليل من قيمتها، باعتبار أن ما تهدف له أعظم من وجهة نظرها.. وتتحول تلك الجماعات والمنظمات بدورها إلى مقياس يحدد قيمة الحياة وفقا لرؤيتها الذاتية وتعمل على إثارة الرعب والخوف والفزع من أجل توصيل رسالتها بما يعنى القضاء على حياة البعض وتشويه الحياة المعاشة لمن لا يموت، فتصبح رسالة الإرهاب الموت فعليًا أو الموت رمزيًا وهو ما يؤكد خطر الإرهاب وخطر ترويج أفكاره.
وعندما نعود للمشهد فى مصر نجد أن البعض ومنذ بداية الثورة يمارس نوعًا من الإرهاب من أجل الموت فعلًا والموت رمزًا والوصول لهدف إنهاء الثورة.. ظهرت تلك الأصوات بشكل تدريجى، وبوصفها حالات فردية يعبر بها قائلها عن رأيه، وتم فلترة الكثير من تلك الأصوات بوصفها ضمن قائمة العار المصاحبة للثورة، ولكن مع الوقت تزايد إنتاج أفكار الإرهاب المرتبطة بالثورة وتزايد الحضور الإعلامى لتلك الأصوات وتزايدت وتنوعت الأسس التى تعتمد عليها.. وبعد أن كنا أمام أصوات تنتقد الثورة والثوار بسبب الحاجة لشراء بيتزا ويطالب بعضها بحرق المتظاهرين لتفريغ الميدان، ويؤكد بعضهم أن المظاهرات ممولة فى صورة "كنتاكى" ويعرض البعض تقديم حلويات "بونبونى" للمتظاهرين تحولنا لخطاب تكفير الثوار وتحليل قتلهم واستهدافهم أو حتى حرقهم فى أفران الغاز، خطاب يشمل من يعرف بوصفه رجل دين ومن ينتمى للإعلام والفن ومن ينتمى للمؤسسة العسكرية فى تنوع واضح ومهم ويؤشر لحجم المخاطر الموجودة والامتداد الممكن لتلك الأفكار.
ولا أقصد بالمخاطر الاتجاه لتنفيذ تلك التهديدات بشكل مباشر أو اعتبارها فتاوى وقرارات تنفذ على الأرض، ولكن المشكلة فيما تنتجه تلك التصريحات، أو فيما يراد منها أن تنتجه على أفكار البعض وعلى رأى فئة ليست قليلة من الجماهير مازالت تراوح فيما يخص موقفها من الثورة والثوار.. ومن شأن تلك التصريحات والتنوع الذى تعتمد عليه أن تجد أرضية لدى البعض بما يؤدى لتوسيع الفجوة بين الثورة والجماهير أو بين الثوار والجماهير فى عمومهم، كما يسهم فى زيادة الفجوة بين التحرير كرمز للثورة والعباسية كرمز للانتقاص من الثورة فى استقطاب له انعكاسات سلبية إن استمر وإن لم يتم التعامل مع أفكار العنف بشكل عقلانى ورشيد لتفنيد مقولاتهم وتوضيح أسس رفضها وفقا للمدخل الذى تنبع منه وتؤسس عليه.
وفى سياق أفكار العنف والعداء للحياة اعتبر متحدث "دينى" أن الثوار كفار واعتبر آخر أن الاعتصام أمام مجلس الوزراء ومنع رئيس الوزراء من الدخول مشابه لاعتداء شخص على منزل آخر فى تشبيه غير حقيقى ويعيدنا مرة أخرى للخلط بين الدولة والأسرة وبين الحاكم والأب وهى نفس الأسس التى استند إليها البعض فى دفاعهم عن الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك بوصفه الأب الذى لا يجب أن يهان.. وأقول إن هذا التشبيه غير حقيقى؛ لأن أسس العلاقة مختلفة وطبيعة التعاقد مختلفة وأسس المحاسبة والثواب والعقاب مختلفة، فالعلاقة داخل الأسرة يحكمها أب وأبناء ورعاية متبادلة، والعلاقة مع الدولة تحكمها أسس المواطنة والحاكم والمحكوم، ومن يعتدى على منزل آخر هو لص لابد التعامل معه وفقًا للقانون وليس سحله وتعريته، ومن يعترض على سياسات الدولة هو مواطن لديه مطالب لابد من النقاش معه وفقا لعلاقة الحاكم والمحكوم ومحاسبته وفقا للقانون إن حدث ما يستحق المحاسبة، مع محاسبة المسئول المخطئ أيضا على تجاوزه حدود الدور المنوط به وبالتعاقد القائم فى إدارة شئون الدولة.
أما القول إن الحل أن يجلس الجميع فى منازلهم، وإن تجنب القتل أو الإصابة -كما ذكر المتحدث- يكون بالابتعاد عن الشوارع والميادين فهو تبسيط مخل لعلاقات الدولة ولحقوق المواطن فى وطنه، وهو أيضا توسيع لسياق مطالبة النساء بالجلوس فى منازلهن لتجنب السحل والتعرية وتعميم "النصيحة" على الجميع بالبقاء فى منازلهم لتجنب الموت أو الإصابة.. فى حين أنه فى النهاية تأسيس لحق الدولة فى ممارسة القمع باسم الدفاع عن النفس مقابل مواطنيها، وتأسيس للعبودية والرضوخ للسلطة باسم الأسرة والأبوية واتقاء الضرر بالجلوس فى المنازل، وهو ما يصب فى التحليل الأخير بالبقاء فى المنازل وعدم الثورة وعدم الاعتراض على سياسات الحاكم أو التقييد كطير حبيس والقبول بما يقدم من طعام فى العش حتى موعد الذبح، والاكتفاء بمشاهدة الطير الحر فى السماء أو فى المسلسلات والأفلام والقصص والحكايات؛ لأننا لم نرقَ بعد للحرية ولسنا أكفاء للتمتع بها؛ لأن الحاكم عندما يقمع يكون بالنسبة لهم أبًا لا يجب الخروج عليه أو إهانته، على الرغم من أن تأثير الأب إن مارس القمع دون أدواره الأساسية والذى يجعله أبًا ظالمًا سيظل على أسرته.. فى حين أن الحاكم الظالم أثره ممتد ومتشعب وهو وجه واحد من أوجه الاختلاف الذى يؤكد رفض إسقاط الأبوية والأسرة على مناقشة علاقة الحكم.. فى المحصلة الأخيرة أجد أن هذا الخطاب يؤسس للرضوخ والاكتفاء من الحياة بالحياة أو شبه حياة، وهو فى هذا يمارس إرهابًا عقليًا ويهدد بشكل غير مباشر من يخرج بالموت، فى حين أن من يبقى يظل مهددًا بالفكرة فيقمع عن ممارسة فعل الثورة.
أما حديث آخر عن أفران غاز هتلر بوصفها السلوك الطبيعى المفترض لمن حرق المجمع العلمى، فيتشابه مع من اعتبر أن المجمع أغلى من الحياة وتباكى على كتاب.. فمع الاعتراف بقيمة الكتاب، وقيمة التاريخ والحضارة فإن هذا التاريخ والحضارة وقيمة الوطن قد تردت لعقود عندما تعرت قيمة الإنسان وتحول لشريد وغريب فى أرضه أو خارجها، وتعرت الحضارة وفقدت الكثير من قيمتها عندما أهين الإنسان لدرجة أوصلت بعض عناصر النظام المراد إسقاطه بعد الثورة للقول إن الإنسان أيا كان يستحق أفران تعذيب، بما يوضح حجم المشكلة التى تربت فى عقول تلك "النخب" لعقود والتى تمثل أحداث الثورة كاشفة لها وتعرية لحقيقتها وقبحها ووجهها اللا-إنسانى.
ترك نظام مبارك المراد إسقاطه آفة مازالت تطل علينا بوجهها القبيح وظهرت واضحة خلال أحداث مجلس الوزراء الأخيرة سواء فيما يخص التعليق على حرق المجمع العلمى أو على سحل وتعرية الفتاة المصرية.. ففى الحالتين جاء الحديث مختلفا على قدر إعلاء قيمة الإنسان أو قيمة الجاه والسلطان.. فمن رأى أن الإنسان غير مهم وشىء هامشى دافع عن كتاب ونظام، ومن رأى أن الإنسان أولا.. دافع عن وطن وكرامة وقيمة وشتان بين الطير الحر والطير المقيد فى الأغلال، وشتان بين من يدافع عن حياة ومن يرهب الحياة ويدعو للموت أو الحياة موتًا.