يبدو أن تعبير "الطرف الثالث" سيظل المصطلح الأشهر على مدى ثورتنا العظيمة، منذ بداياتها وحتى الآن، بل يبدو أنه بات طوق النجاة والمَخرج الوحيد أمام المسؤولين لتبرير مؤمرات ومكائد الثورة المضادة، التي تحاول عبثا وأد الثورة وتشويه الثوار. وقد ظل هذا المدعو "الطرف الثالث" لصيقا بأحداث قصر العيني الدامية التي شهدتها مصر منذ فجر الجمعة الماضية وحتى الآن، ليصبح المرادف المستحدث للأشباح والعفاريت وعصابة اللهو الخفي الجبارة!!. فالتصريحات الرسمية الصادرة عن المسؤولين بدءا من أعضاء المجلس العسكري حتى الدكتور كمال الجنزوري تؤكد بما لايدع مجالا للشك أن هذا "الطرف الثالث" المجهول هو المسؤول عن أحداث العنف والقتل والحرق العمد في ساحة حرب القصر العيني، وإن كان الأمر صحيحا، فالأمر يستوجب وقفة مع المسؤولين عن أمن البلاد وأجهزة الاستخبارات التي عجزت عن فك طلاسم هذا اللغز المحير، وهنا ينبغي مساءلة هؤلاء المسؤولين بتهمة التقصير في أداء الواجب، وإن كان هذا "الطرف الثالث" لا وجود له أصلا فلابد من محاكمتهم بتهمة تضليل الشعب والكذب. "الطرف الثالث" الشهير نال المزيد من الأضواء والشهرة خلال المؤتمر الصحفي الاستفزازي الذي عقده الدكتور الجنزوري بعد يومين من بدء "مذبحة" القصر العيني، عندما أكد باعتباره العارف ببواطن الأمور أن "هؤلاء ليسوا ثوارا.. وإن ماحدث يشير إلى أن هناك أطرافا لا تريد للتحسن الأمني أن يستمر.. وأن قوات الجيش لم تطلق النار.. والطلقات جاءت من وسط المعتصمين". إذن هو نفس الطرف الثالث الغامض الذي دأب كل من يجلس على كرسي السلطة في مصر على تحميله كل المسؤولية عن أية أحداث عنف أوقتل أوحرق أوفتنة طائفية أو بالمرة أيضا أية اعتصامات أو إضرابات أو سرقات واختلاسات!!. لعل الأمر يتطلب عندئذ رصد جائزة لمن يتعرف على هوية هذا "الطرف الثالث" المعجزة الذي يقف وراء كل مصائب مصر منذ خلع الرئيس السابق من السلطة بما في ذلك أحداث مسرح البالون والعباسية ومسلسل الفتنة الطائفية وماسبيرو ومحمد محمود وأخيرا القصر العيني. وأزعم أن محتجزي "بورتو طرة" من فلول نظام مبارك سيستحقون هذه الجائزة عن جدارة واستحقاق!!. ولم تقف تصريحات الدكتور الجنزوري عند هذا الحد وإنما صاح بأعلى صوته في وجه مراسل "العربية" ولقنه درسا في أصول وأداب الإعلام الحديث قائلا له "أنت رأيت العنف؟ لا تصدق إن لم تره بعينك... لا يوجد عنف.. لا يوجد عنف". تصريحات الجنزوري هذه تعني أن ما شهدناه على شاشات التليفزيون والفيديوهات لم يكن عنفا وإنما كان "مباراة مسلية" في الكر والفر للترفيه عن الجنود الذين كانوا يحرسون مبنى مجلس الوزراء ولإخراج المعتصمين من حالة الملل، عوضا عن توقف مباريات الدوري العام.. وفجأة انقلب الهزار إلى "مزاح ثقيل" أسفر عن مقتل عشرة شهداء وإصابة أكثر من خمسمائة شخص. كل هذا المشهد الدامي المرعب الذي يعجز مخرج أفلام الرعب الشهير هيتشكوك عن محاكاته لم يلفت اهتمام الجنزوري، واعتبره أبعد ما يكون عن العنف، بل وألقى بالمسؤولية بالكامل على "الطرف الثالث" المغوار.. ونسأل الدكتور الجنزوري إذا كان هذا ليس عنفا فما هو تعريف العنف من وجهة نظره. لقد أدركت الآن لماذا قوبل تعيين الجنزوري بالتحفظ من قبل معظم القوى السياسية في مصر. ألم يشاهد الدكتور الجنزوري الطريقة الوحشية التي تعامل بها جنود الجيش وقوات الأمن مع "الأعداء" أقصد الشباب والفتيات العزل في ساحة الحرب أقصد ساحة القصر العيني.. الأمر برمته ينطوي على فضيحة بكل ماتحمله الكلمة من معنى. وقد تعمدت مشاهدة تسجيلات الفيديو الموثقة للأحداث عدة مرات حتى أتمكن من ضبط هذا "الطرف الثالث" الجبار فلم أجده في الصورة.. لم أجد سوى جمع غفير من الجنود المتوحشين الذين انقضوا بكل ما أوتوا من قوة وعتاد على فتاة بريئة وعمدوا إلى جرها على الأرض وتجريدها من ملابسها وانتهاك حرمتها غير عابئين بالكاميرات التي ترصد الواقعة الهمجية التي باتت حديث العالم الآن. لم يدرك هؤلاء المتوحشون أنهم عندما جردوا هذه الفتاة من ملابسها إنما جردوا أنفسهم في الوقت نفسه من مشاعر الإنسانية وارتدوا قناع الأسود والنمور والثعالب الفتاكة. لا أدري لماذا شعرت حينئذ أننا خسرنا في هذه اللحظات القليلة تعاطف العالم كله مع أنصع ثورة في التاريخ المعاصر. أما آن للطرف الثالث أن يرحل ويختفي عن قاموسنا اللغوي الحديث الذي دأب دعاة حماية الثورة على استخدامه درءا للمساءلة والمحاسبة وطمعا في سلطة دانت لهم في غفلة من الزمن. ولنتأمل قوله تعالى في سورة الكهف "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا".