رغم كل المساحيق بدت أعراض الشيخوخة على رئيس الوزراء المكلف كمال الجنزوري خلال مؤتمره الصحفي الذي عقده اليوم للإجابة عن أسئلة المحررين العسكريين، كان المؤتمر الصحفي قصيرا جدا لم يستوعب كل ما كان الصحفيون يريدون طرحه من أسئلة، وكان الجنزوري الذي عرف بأنه كمبيوتر الحكومة من قبل متلعثما في بعض الأحيان، عانى بعض السعال المتقطع، وهي بداية لا تبدو مبشرة كثيرا لرئيس حكومة أكبر دولة عربية. الدكتور الجنزوري معروف بصلابته وميله الشديد إلى المركزية ومتهم بالتكويش على السلطات، هكذا كان وضعه حين تولى رئاسة الوزراء من يناير 1996 إلى أكتوبر 1999، واليوم يطلب الثوار نقل السلطة لحكومة إنقاذ وطني، وقد عبر العديد من رموز القوى السياسية والنشطاء عن عدم اكتراثهم باسم رئيس الحكومة الجديد بقدر اهتمامهم بالصلاحيات التي ستمنح له من قبل المجلس العسكري، وقد سئل الجنزوري عن هذه الصلاحيات في المؤتمر الصحفي فأكد أنه سيحصل على صلاحيات كبيرة لم تتح لأي رئيس وزراء خلال ال 60 عاما الماضية، وأن هناك مراسيم ستصدر بهذه الصلاحيات خلال الأيام المقبلة. اختيار الجنزوري كان خاطفا، ومفاجئا للكثيرين، وكان صادما على نحو خاص للمعتصمين في ميدان التحرير الذين طرحوا عدة أسماء لتولي حكومة الإنقاذ الوطني ليس من بينها اسم الجنزوري الذي يعدونه واحدا من رجال مبارك، حيث ظل الرجل يعمل في دواليب السلطة لعقود طويلة بدءا من رئاسته معهد التخطيط ثم توليه منصب محافظ بني سويف مرورا بتوليه وزارة التخطيط ثم رئاسة الوزراء، ولم يعرف عنه أنه مناضل سياسي سابق، أو أنه كان معارضا للرئيس مبارك، وحتى بعد ان خرج من السلطة ظل في حالة صمت مطبق، جعلت الكثيرين يعتقدون أنه صمت مفروض عليه من جهات عليا، وحين اندلعت الثورة لم ينطق الجنزوري بكلمة وظل صامتا حتى تنحى مبارك، واستقرت الأمور نسبيا للثوار فخرج يتحدث في بعض الفضائيات أحاديث مقتضبة. لم يتهم الجنزوري باتهامات مادية رغم أنه واكب عملية الخصخصة، وكل الاتهامات التي توجه إليه اتهامات إدارية وسياسية، يأتي على رأسها ميله الشديد نحو المركزية والتكويش على كل شيء حتى أنه يوم خروجه من الوزارة في يوم 5 أكتوبر 1999 تقرر إعادة 18 مجلسا أعلى وهيئة عامة كانت تحت ولايته المباشرة إلى الوزراء المختصين، كما تقرر في اليوم ذاته استحداث وزارة للشباب والرياضة بدلا من مجلس أعلى للشباب والرياضة. ترك الجنزوري رئاسته الحكومة سنة 1999 بعد صراعات خفية ومعلنة مع وزرائه، وبعد خلافات مع القيادة السياسية حول برنامج الخصخصة الذي قيل إن الجنزوري كان معارضا او متحفظا عليه، وربما لهذا السبب الأخير بالذات بدا الجنزوري كواحد من ضحايا نظام مبارك، وهو ما وفر له قدرا من الشعبية في الشارع الذي تعاطف دوما مع ضحايا مبارك. كعادة عهد مبارك كله لم تكن مصر في ظل رئاسة الجنزوري للحكومة من قبل تنعم بقدر كبير من الديمقراطية يسمح بالنقد، لكن ذلك لم يمنع كاتبا كبيرا هو عادل حمودة أن يوجه سهام نقده للدكتور الجنزوري عبر مجلة قومية هي روز اليوسف، وكانت تلك المعركة واحدة من أشرس المعارك الصحفية في عهد حسني مبارك يقول عنها عادل حمودة في كتابه "أنا والجنزوري" : "نشبت بيننا معركة دامية كانت في الحقيقة آخر اقوي المعارك بين الصحافة والسلطة في السنوات الماضية، بل لعلها آخر معركة من هذا الطراز في القرن العشرين في مصر" ، ورغم أن البعض يرى ان عداء حمودة للجنزوري نشأ وتصاعد بسبب رفض حكومة الجنزوري منح ترخيص لشركة صحافة تابعة لعادل حمودة، فإن حملة حمودة تركزت على قضايا موضوعية، تتعلق بطريقة إدارة الجنزوري لمجلس الوزراء وخلافاته المستمرة مع وزرائه الذين فرض الكثيرون منهم عليه من جهات عليا، وكذلك مشروع توشكي. وإذا كان البعض ينتقد شخصية الجنزوري بسبب ميلها للمركزية والتكويش وتهميش الوزراء الباقين فربما يرى البعض الآخر أن هذه الصفات تدل على قوة شخصيته، وقد كان الرجل يوصف من قبل أنه رئيس وزراء "بجد" أي ليس مثل من سبقوه والذين كانوا شخصيات باهتة لا تخفي أنها تنتظر التعليمات والأوامر، ولم يكن لها بصمتها الخاصة في مجلس الوزراء، وهذا ما يدعو البعض للتفاؤل أن الجنزوري سيصبح قادرا على انتزاع صلاحيات حقيقية من المجلس العسكري، خاصة ان هذا المسعى نحو صلاحيات حقيقية واسعة مدعوم بإرادة شعبية جارفة تعبر عن نفسها في التحرير وميادين آخري كثيرة. ينقل عادل حمودة في كتابه أن مصادفة جمعته بوزير التربية والتعليم الأسبق حسين كامل بهاء الدين في القطار المتجه من القاهرة إلى الإسكندرية، وأنه فوجئ بالوزير يتحدث بصراحة وشجاعة عن خلافه مع الجنزوري والمآزق التي وضعه فيها، وأن الخلاف بينهما لا يقتصر عليهما فقط، ولكنه يمتد لأكثر من 24 وزيرا في الوزارة،" وينقل حمودة عن مسئول آخر - لم يسمه - "ليس صحيحا أن الوزراء المختلفين مع الجنزوري هم 24 وزيرا، لكنهم 26 وزيرا، مضيفا كنا نعاني أيام حكومة الدكتور عاطف صدقي من صراع الوزراء مع بعضهم البعض والآن نعاني من صراعهم مع رئيس الوزراء أو بدقة أكثر صراعه هو معهم". الخلاف مع الوزراء استثنى بطبيعة الحال الذراع اليمنى للدكتور الجنزوري وهو الوزير المستشار طلعت حماد، الذي كان بمثابة "بعبع" مجلس الوزراء، يخشاه الوزراء والصحفيون والمسئولون، ولا يمر شيء إلى الجنزوري إلا من خلاله، والسؤال الآن هل سيعيد الجنزوري طلعت حماد إلى الوزارة مجددا، ام سيوجد بديل عصري لها؟!. إذا قدر للجنزوري ان ينجو من العاصفة الحالية الرافضة لتوليه الموقع، فستكون أمامه مهام محددة تتركز حول توفير الأمن والاستقرار، وإجراء الانتخابات النيابية، ووقف تدهور الاقتصاد باعتباره واحدا من أهم الخبراء الاقتصاديين، وحين ينتهي من هذه المهام عليه ان يخلد إلى الراحة مسلما الراية لرئيس وزراء مدعوم بإرادة شعبية.