قبل عامين كانت البدائل منعدمة فيما يتعلق بمن يحكم البلاد في المرحلة الانتقالية، ولأن الثورة حدثت بغتة، فقد تلقف الجيش الكرة بسهولة لم تتناسب وإمكاناته السياسية الممكنة لإدارة دولة بكامل مؤسساتها وأزماتها المعقدة التي ثارت من أجلها شرائح الشعب المختلفة. ولم تنجح التجربة، كانت أكثر من فوضى على المستوى السياسي والاجتماعي والتشريعي، إلى أن سلم العسكر السلطة بعد عدة إخفاقات إلى طرف آخر، ربما أقل خبرة في إدارة البلاد، أدى إلى تفاقم هذه الأزمات وظهور أزمات أخرى أكثر تعقيدا، على إثر هذه الحالة زادت البلاد فرقة وتشتتا وابتعدت عن الأهداف الحقيقية للثورة لمواجهة المستجدات التي حاصرتها بها الجماعة الحاكمة الجديدة. ما حدث في عام ونصف على يد العسكر من تنكيل بالقوى الثورية من خلال القمع والمواجهات الشرسة في الشوارع والميادين والمحاكمات العسكرية للمدنيين والأحكام التعسفية التي تتنافى والمنطق يجعل مجرد التفكير في إعادة الكرة لهم دربا من دروب المستحيل، بل يخلو من أية عقلانية، لأنه وبكل بساطة يسلم بكل الأخطاء التي وقع فيها العسكر خلال فترة تسلمه السلطة، ويفتح الباب لمزيد من الانتهاكات للقوى الوطنية والمقاومة السلمية التي لم تر حتى الآن من التغيير ما يوقفها عن نضالها في سبيل التحرر من قيود قوانين على شاكلة الطواريء وما يتم تفصيله بين يوم وليلة لمحاربة جهودهم لبناء دولة مدنية حديثة لا تتلفح بالشعارات الدينية أو السياسية الفارغة من المضمون. ولأن نصف عام فقط من حكم مصر على يد الإخوان كان كفيلا بإذاقة الشعب المصري كل فنون التسلط والإرهاب والتوغل في المؤسسات تحت شعار النهضة، التي بدأت بقطع المياه والكهرباء، وانتهت بقطع الطرق والكباري، فإنه لم يعد هناك طاقة لدى هذا الشعب لتحمل المزيد من الانتهاكات والانقسامات على يد الجماعات الدينية المتطرفة والمعتدلة التي لا تقل خطرا بسبب سلوكها كل السبل الممكنة للوصول لمقاعد الحكم في الرئاسة والبرلمان حتى ولو على حساب الفقراء والمهمشين والعمال والفلاحين وأصحاب المهن من كل القطاعات الأخرى. تمرير دستور غير متوافق عليه، وفرض طواريء على مدن القناة لأيام، وزيادة الأسعار للمنتجات الحيوية للمواطن البسيط، ورفع رسوم الكهرباء والغاز، وغيرها من الإجراءات التي لم يقابلها تطور أو إنجاز في أي مجال، أدى إلى تحول السخط الشعبي إلى رغبة في العصيان على الحاكم وجماعته، وقد بدأت شرارة العصيان المدني في بورسعيد متجهة إلى وسط الدلتا والصعيد، هكذا يصبح الحكم مستحيلا بالعصا وحدها لمن يريدون حكم مصر بالحديد والنار. الخطورة لا تكمن فقط في فشل الجماعات الدينية في حكم مصر في المرحلة الحالية، ولكن في المطالبة بالعودة إلى المربع صفر والهرولة إلى العسكر من جديد لإنقاذهم من ويلات الجماعة وميليشياتها التي دأبت على تبطين كل قرار أو سياسة جديدة يصدرها مندوبها في الرئاسة، حتى سقطت هيبة القضاء، وتصاعدت حدة الإجراءات القمعية التي أصبحت أكثر من ذي قبل، بعد أن تفرغ الحاكم لتسليحها بميزانية تفوق قدرة البلاد التي تعاني من أزمات اقتصادية طاحنة طالت رغيف الخبز ذاته، مع انهيار العملة الوطنية وتهديد المنشآت الحيوية بسبب عدم الاستقرار بدءا بالسياحة ومرورا بالبترول وهيئة قناة السويس. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف تخرج مصر من الأزمة الراهنة في ظل التشاحنات المستمرة والمصادمات الدامية بين التيارات السياسية المختلفة، وصعود فقاعات من آن لآخر تدعي الوطنية وتفتح حوارا وهميا لا تخرج منه إلا بمناصرة الحاكم، ولمزيد من المناصب الموالية له ولجماعته في التغييرات الحكومية التي تقع بين حين وآخر لإنهاء حالة الاحتقان لدى المواطن عقب كل كارثة تتعرض لها البلاد، سواء كانت حوادث يذهب ضحيتها العشرات نتيجة الإهمال دون أدنى مسئولية من الحاكم وحكومته العاجزة عن تقديم مشروعات محددة للنهوض بكل القطاعات المتدهورة في البلاد، أو عمليات إرهابية متورط فيها أشخاص لا يتم الكشف عنهم لأسباب يعرفها الحاكم وجماعته أيضا، كما حدث في واقعة رفح ومقتل الجنود المصريين على الحدود ومذبحة بورسعيد، وما يزال الجاني محتميا بغطاء الشرعية. أصبحت المليونيات سياسة فاشلة بعد صعود الإسلاميين لسدة الحكم، وبدأت الحروب الاستباقية لشغل المواطن العادي والثوار بقضايا جديدة تصب في مصلحة الجماعة، الصكوك الإسلامية على سبيل المثال، وتأجير قناة السويس أو الانتفاع الخارجي لها بشكل أو بآخر، وأخيرا ملهاة تأجير الآثار والمزيد من متاهات الكوميديا السوداء التي تعود بالمصريين للوراء وليس العكس. وبدأت مرحلة العصيان المدني كتطور طبيعي للاحتقان الذي نتج نتيجة اليأس من تحقيق أي إنجاز في ظل وجود جماعات المصالح وتجار الدين والدولة والمنتفعين ممن يوالونهم، فهل ترضخ الدولة لهذه الانتفاضة الجديدة أم ستدخل بالبلاد في مرحلة جديدة من العنف والعنف المضاد؟ الأمر يتوقف على ثبات كل طرف على مبادئه وقوته التنظيمية التي تستدعيها المرحلة، ولكن كيف يتم تنظيم صفوف المعارضة في ظل الصراع على الكراسي؟ سؤال لا إجابة له حتى الآن إلا التئام الجبهة الوطنية بكل أطيافها كما كانت في الخامس والعشرين من يناير قبل عامين، فالقوة ليست في السلاح بقدر ما هي في التوحد والإصرار والعمل المشترك لصالح الوطن فقط ليس إلا.