قديمًا كان يُطلق لفظ "عزبة" على قطعة كبيرة من الأرض تضم من الخيرات ما لذّ وطاب، وتنماز بالمشاهد الخلّابة والطبيعة الربانية، بل كانت ملاذًا لمُلّاكها يهرولون إليه كلما ضاقت بهم الأنفس حتى يجدوا تحت أشجارها ما يريح أعصابهم، ويتنفسون هواءً نقيًا لا يظمأون بعده إلا عندما يعودون إلى مفرمة الحياة العادية. وكانت "العزبة" فى الغالب تُنسب إلى أول من انتقل إلى قطعة الأرض تلك، سواء امتلكها كلها، أو معظمها، أو لم يمتلكها، وأصبح أول من عمّر بها، فيظفر بتسميتها بلقبه. أما الآن، فأصبحت اللفظة التى ما كانت تُنسب إلا للأثرياء، أصبحت تعج بكل ما لا يتوافق مع الحياة الآدمية، ويتعارض مع القوانين الإنسانية، حتى أضحى بعض من يقطنها يتبرأوون من الاسم نفسه، ولرسوخ هذا الانطباع السيئ أسبابه، التى هى موضوع النقاش. عزبة الجلولى نموذجٌ انطبق عليه كل ما سبق سرده، فبعد أن كانت منظقة البشاوات كما يُقال، بات أهلها أو من يقطنون بها ينفرون منها، لا نبذًا لأصل اللفظة، وإنما لأنها إذا ذكرت استقر فى الأذهان مصطلح منطقة العشوائيات التى لا يسكنها إلا من هم ليسوا على طاولة المسؤولين، كل المسؤولين على تغيير مواقعهم، وكأنهم لم يرتقوا إلى منزلة البنى آدمين ومن حقهم العيش بحياة كريمة. المسؤولون الذين يهرولون لإصلاح أى شارع يمكن أن يتعرض لطفح مجاري، على سبيل المثال، لمجرد أن مسؤولًا سواء كان أكبر منهم أو أقل رتبةً، المهم أن يكون ممن على شاكلتهم.. لا يعيرون ساكنى العزب الذين يبُحُّ صوتهم ليل نهار ولم يجد صدى أى مسؤول يؤمن بأنهم مواطنون وأن عليه رعايتهم، إن لم يكن خدمتهم، لا يعيرونهم أي انتباه.. عزبة الجلولى التابعة لحى بولاق الدكرور بالقرب من منطقة كفر طهرمس، والطالبية فيصل، ربما يعرف رئيس الحي شوارعها أكثر ممن توافدوا عليها منذ سنوات، وتلك المعرفة بالطبع ليست من منطلق الحرص على الإحاطة بكل ما يدخل فى زمام مسؤوليته، وإنما من كثرة شكاوى أهاليها التى أكاد أجزم بأنه لم يمر شهر إلا وتذهب لمعاليه إحداها، وما على موظفى الحى إلا الإلقاء بها فى صناديق القمامة حتى لا يصدّعوا معالى رئيس الحي.. أهالى عزبة الجلولى يحاولون صباح مساء الوصول بأصواتهم إلى المسؤولين، لا طمعًا فى سكن ملائم، أو توفير شبكة صرف صحى ترحمهم من انفجار البلاعات بين أونة وضحاها، بل لأنهم لا يجدون مياهًا يشربونها، المياه منقطعة منذ 16 عامًا أو يزيد!.. تمر شهور تأتى خلالها المياه من ثلاث إلى أربع ساعات يوميًا، وفى الغالب الأعم، هى شهور الشتاء، ثم يأتى الصيف بحرارته الملتهبة التى تلفح الوجوه والأجسام، وتمر أسابيع، دون أن تأتى قطرة مياه عَزْبة تروى ظمأ أهل العِزْبة، وإذا جاءت فلا تستمر إلا ساعتين أو ربما أقل، وعلى الأهالى أن يسهروا طيلة الليل يترقبونها، وفى معظم الليالى تخذلهم تلك القطيرات بعدم مجيئها. ربما يسأل سائل كيف يعيش مثل هؤلاء؟ أقول إن منهم من يعتاش على مياه الطلمبات التى يدقونها على بعد أمتار يتطهرون من مياهها وهى من الطهارة براء، ومنهم من يذهب خارج زمام العزبة ليملأ جالونه حتى يرتوى منه. عزبة الجلولى تحيطها المياه العذبة من كل جانب، سواء من ناحية شارع الملكة أو من ناحية شارع أبوزيد، أو من منطقة كفر طهرمس، والتى تسبقها بيوت عزبة الجلولى من حيث القدم، لكن مساحتها التى لا تتعدى حوالى الكيلو متر مربع لا تأتيها المياه من بين يديها ولا من خلفها. فى عزبة الجلولي، ما يربو على أربعمائة بيت، تضم أكثر من 800 أسرة، فضلًا عن عدد من الأبراج التى بُنيت بها مؤخرًا، يعانى قاطنوها الأمرّين، حتى يستطيعوا أن ينالوا حبات مياه تروى أجسادهم.. فيا أيها المسؤولون راعوا ربكم فى هؤلاء المواطنين، وأيقظوا ضمائركم المسؤولة عن خدمة هؤلاء الأهالي..أهالى عزبة الجلولى يخاطبون فيكم ضمائركم الحية، لا الجانب الميت منها، أن ترعوهم وتوفروا لهم المياه التى لا تدوم الحياة إلا بها، فهل من مجيب؟ المشهد.. لا سقف للحرية المشهد.. لا سقف للحرية