يقول الأثر الشعبى: "سرقوا الصندوق يا أبو لمعة.. لكن مفتاحه معى!! " .. فالصندوق بما يحتويه ليس مهما، وإنما المهم أن يكون المفتاح أى مفتاح مع شخص ما، وهذا الشخص يكتسب أهميته وصيته من وجود المفتاح معه.. ومنذ العصور السحيقة ينطبق هذا المثل، حامل الأختام الملكية الذى يمهر الوثائق طبقا لنوعها بختم معين هو صاحب سلطة واسعة، رغم أنه قد لا يفقه – أو أنه لا يفقه – ما يطبع عليه بأختامه، تماما مثل " الحمار يحمل أسفارا"، ولكنه ينهى ويأمر، يرغى ويزيد، ويرفع أقدار البعض ويحط أقدار البعض الآخر .. بعض موظفى الشهر العقارى مثلا يكتسبون هذه الصفات المتسلطة، ويستمتعون بمعاناة المتعاملين الذين يرجون ويستعطفون، بينما "حضرته" يقوم ويقعد، يرضى ويغضب، يبتسم فيضحكون، يزمجر فيرتعدون، يقفل دفتره معلنا أنه لن يعمل هذا النهار وهو يتأمل إلى عيونهم الضارعة سعيدا رغم ملامحه التى ترسم الضيق والضجر، يضع السيجارة التى أهداها إليه أحد المتعاملين بين شفتيه، فتسارع الأيادى بأعواد الثقاب المشتعلة كى يدخن "حضرته"، ينفخ دخانه فى وجوههم وكأنه يهش ذباب تقاطر حوله، يقسم أنه يعمل لوجه الله، بينما تتساقط الجنيهات فى درجة الموارب.. "عم محروس" جامع القمامة يمر على العمارات فى الحى وهو يحمل على كتفه قفته المميزة، يسحب بيديه المعروقتين أكياس القمامة القابعة أمام أبواب الشقق ثم يقذفها بمهارة داخل القفة دون أن يعبأ بما يتساقط منها، وإذا ما لفت نظره أحد هاج وماج منتقدا الناس وزبالتهم، متباكيا على الزمن الذى اضطره أن يخدم بشرا لا يختلفون كثيرا عن زبالتهم، وإذا تطور الأمر يعاقب صاحب الشكوى بأن يترك قمامته تتراكم لأيام حتى يجيئ إليه معتذرا راجيا، وكم يسعد "عم محروس" بالدعوات التى تلهج بها ألسنة ربات البيوت له بالصحة والعافية، ووقوفهن صاغرات أمامه وهو يلقنهن أسلوب حفظ الزبالة، وهو بدوره يرفع رسومه من حين لآخر، وويل للمعترض... هذه النماذج وغيرها كثير، تعكس صورا مختلفة لرجل معه مفتاح ما، يتيح له فتح صندوق ما، بغض النظر عن وجود هذا الصندوق، فهو الاستبداد الذى يتبادل أبناء المجتمع تناول جرعاته والاستمتاع به والتألم منه، فكل إنسان معه مفتاح، وإذا تعذر عليه استخدامه مع الآخرين، أفرغ جرعته فى زوجته وأولاده، أو فى نفسه أحيانا.. وهذا المفتاح مصدره سلطة ما – كبرت أم صغرت – لا تخضع للرقابة ولا تتعرض للمسائلة، فهى تبدو على الأغلب مطلقة حتى ولو كانت لها محددات قانونية، وسبب إطلاقها، رغم هذه المحددات هو أن القانون يتبع النظام وليس العكس، والالتزام به ينشأ من عناصر ثلاثة أساسية: أولهما الشعور الداخلى بضرورة الالتزام، وثانيهما: وجود رقابة فعالة، وثالثهما: سلطة قانونية لفرض الالتزام ومعاقبة منتهكيه.. وأهم هذه العناصر هو الأول، فهو يمثل الوعى الذاتى لأفراد المجتمع بأهمية تنظيم سلوكهم لتحقيق مصالحهم، وبأن الاستبداد مهما كانت درجته هو مقدمة الفوضى التى يكون الجميع ضحاياها بلا استثناء، وهذا الوعى ليس مكتسبا فطريا، فالإنسان لا يولد ومعه جينات احترام إشارات المرور، أو مواد قانون العقوبات، وإنما يكتسب ذلك أولا من الظروف الاجتماعية التى يولد فيها، ثم من المدرسة ودور العبادة ووسائل الإعلام والأدب والفن، وكل ذلك يتأثر بشكل عميق بالظروف السياسية للمجتمع . ويزداد تعقد المشكلة حين يكون الاستبداد سلوكا لا يستند إلى سلطة، أى ما يمكن أن نطلق عليه "استبداد خام"، فقد يكون مفهوما – وإن يكن غير مقبول – أن يستبد الأب تجاه أولاده باستخدام سلطته الأبوية، فهى على كل حال سلطة شرعية تتيح له بعض المكنات القانونية أو الفعلية، ولكن لن يكون مفهوما أن يمارس هذا الأب استبداده على أطفال آخرين لا تربطهم به أى سلطة شرعية، وهو حين يفعل ذلك فإنما يستخدم سلطة مستلبة لا يقرها شرع أو عرف، وإنما تستند أساسا إلى جبروت القوة وثقافة الخوف. وقد يقول قائل: "وما البأس فى وضع نكون فيه جميعا ظالمين ومظلومين فى نفس الوقت؟!، أن ذلك هو التوزيع العادل للظلم والعدل !! "، وهذا قول فيه نظر.. بداية من إدعاء العدل فى التوزيع، فكيف يتأتى أن يلتقى النقيضان، كيف ينام العدل مع الظلم فى نفس الفراش؟؟ .. ثم أن درجات الظلم تختلف، فاستبداد "عم محروس" جامع القمامة، يختلف فى النوع والدرجة والأثر عن استبداد سائق التاكسى، فقصارى أثر الأول هو رائحة نتنة وأسراب من الذباب، بينما لا يمكن حصر آثار الثانى الذى يصل أحيانا إلى مشاجرات تنتهى بفقدان الحياة.. ونضيف إلى ذلك أن الاستبداد كالعدوى التى تنتشر كى تقتل خلايا المجتمع الحية، فتفقده المقدرة على التطور والنهوض، وتكسبه صفات النفاق والفساد والتواكل والسلبية. وقد يقول قائل آخر: "إن المسألة لا تتعلق باستبداد وإنما بالفهلوة، والذى تكسب به تلعب به، ومن يمتلك القدرة يخطئ إن لم يستغلها لحسابه"، وهذا أيضا فيه نظر .. لأن مصطلح "الفهلوة" إنما هو أحد نتائج الاستبداد، وذلك لأن الإنسان كى يناور فى مواجهة ما أطلقنا عليه "الاستبداد الخام" يلجأ إلى خداع النفس والآخرين، من خلال إظهار ما لا يبطن، ثم أن إطلاق فكرة "ما تكسب به تلعب به" لا يعنى سوى الفوضى، فالمفروض أن أى مكسب فى مجتمع منتظم يتحقق من خلال وسائل مشروعة لتحقيق أغراض مشروعة، أما اللعب بأى شىء يؤدى إلى المكسب فهو دعوة للجريمة، فاللص يكسب بلا شك إذا وضع يده فى جيبك، ولكن من المؤكد أنه مكسب حرام.. أما أن يكون من يمتلك القدرة مخطئا إذا لم يستغلها لحسابه، فتلك دعوة أخرى لتطبيق شريعة الغاب.. ومن المؤسف أن نجد البعض أكثر حرصا على تملك المفتاح من حرصه على وجود الصندوق، وأعنى هنا بالصندوق مخزن القيم والقانون والعدالة والشرعية والمساواة ومصدر السلطة، فالسلطة الأبوية كما قدمنا طبيعية وشرعية وفعلية، ولكنها إذا تجردت من حدودها الشرعية بل والأخلاقية تحولت إلى استبداد خام، وأفرزت لنا أجيالا باهتة عدمية تكرر الطبعة نفسها، وتسعى جاهدة للاستيلاء على المفتاح، أى مفتاح، بغض النظر عن مصير الصندوق !! ...