محض صدفة تجعلك تقع فى غرامها فور تسللها إلى مسامعك .. كالذى يقطع مسافة طويلة بصحراء مقفرة فيُضنِيه الظمأ ، وإذا بعينيه المضببة بذرات الرمال الغابر تلمح بريقاً بعيداً ينبض بأحد معالم الحياه ... إنه ذلك الينبوع العذب الذى تدفقت مياهه فى غزارة وفاضت على جوانبه ، فتلمَحُها يانعة تلك الواحة الفردوسية وتخالها من روعة اخضرارها من نسج خيال لا واقع ! تلك هى قصيدة " لحن قلبى " التى تغنى بها المطرب اللبنانى مروان خورى على ألحانه الرائقة المنسابة ، فكانت كعصفور الجنة الذى ينثر زقزقته بأحضان شجرة ضخمة وارفة الأغصان ، فيخلب عقلك ذلك الظل العملاق المتوشح بتراتيل ناعمة وهادئة .... أذهلنى حقاً ذلك الجمال الخاطف الذى سكن الكلمات، والإيقاع الحالم الهارب من قصور الأساطير والأقاصيص، فصارت كل عُضيات هذا الكيان الإبداعى تتحرك بإتجاه واحد لتفترش فى المخيلات بساطاً حريرياً يليق بتلك اللوحة الكلاسيكية الناعمة ... تحتضنك الموسيقى كموجة بحر صباحية مليئة بأسرار الحياة ، تداعب أنفاسك برذاذها الفواح ، فتجعلك تستعد كثيراً لما تحمله هذه النعومة من نشوة واحتفاء تمهد لعميق المعانى، وإذا بصدى الكلمات الأولى للقصيدة يُشبِع مساحات شعورية شاسعة لدى المستمع، فصارت الكلمات ترأب صدوعاً روحية لانهائية أقسم الأطباء باستعصائها . تتسلل الكلمات الى أسماعك فى رشاقة هامسة ...(إحملنى إلى أنغام عازفٍ .. إلى هناك ..إلى حيث لا أدرى .. إلى بحر .. إلى كوخ صغير .. ونسمة دافئة .. وحب حقيقي .. ومدفأة .. يا سارقاً لحن قلبى .. أَدِم حِنوك دهراً .. وراقصنى فى حانات عشقك ... على أنغام نايي الحزين ) ..! وبعد هذا الكوبلية المُحمَل بالكثير من المعانى العذبة، تعاود الموسيقى إنسيابها باللحظات المناسبة لتشبه نَفساً عميقاً تستوعب معه كل ما صَغَت إليه آذانك واستنشقه حِسك ، فتترطب مسامك ، ثم تعود تتأهب لرشفة أخرى ...( إنى حائرٌ من جنونك واشتياقى.. من عبير تلك الليالى ومن وَصلِنا الغريب .. إن غِبتَ ..أَختلى بطيفك.. أُقبِل جِنانه .. وأرتمى بأحضانه .. وأُمتِع ناظرى بِحُسن حديثه ...وألتمس الراحة من دفء يديه.. وألثُم ثراه ليروى ظمأ حنينى ) ثم تعود الجملة الشعرية المالكة لسحر القصيدة تتدفق بجنبات اللحن من جديد (يا سارقاً لحن قلبي .. أَدِم حُنِوك دهراً................. ) وبعد هذا التراكم الإنفعالى والأدبى المُحكم البنيان تستمر القصيدة فى جذبك إليها كمغناطيس مركزى لا ترى أقطابه لكنك تستشعر سلبه توازنك عن بُعد ، وتتراكب الصور البلاغية المختلفة بالمقطع التالى .. (خَفِف اشتياقك فحنين صوتك يُذيِبُنى.. ويُذيب روحى ..شوقك جنونى و جَنتى ) وكأنه رجاء يحمل بين طياته النقيض، فهو استجداء على استحياء يأبى الإجابة . ثم تتكرر تلك الجملة الشعرية ثلاث مرات متتالية ..( هَوِن علينا ذا الهوى .. فجنونه قيد معصمى وكسر قيود العقل ) وكأنه قسم ثلاثى مشدد، متبوعاً باعتراف خجول يحنث بذلك الرجاء وذاك القسم قائلاً ..( يا جمال الجنون ونظرات الغريب وحديث الُخُزام .. أَطِل المكوث بجانبى وأَطِل حديثك البعيد عن حبى .. فأنا لا أسمع .. بل أنظر بقلبى إليك ) . ويتهدج إيقاع برهة حزينة خاطفة سرعان ما يبدد حزنها وارتعاشتها دخول ذلك المقطع الساحر الذى جاء فى الختام كما فى الاستهلال وكأنه شطر الحالة الشعورية بأكملها وبيت القصيد .. (إحملنى إلى أنغام عازفٍ .. إلى هناك..إلى حيث لا أدرى .. إلى بحر.. إلى كوخ صغير.. ونسمة دافئة .. وحب حقيقي .. ومدفاءة.. يا سارقاً لحن قلبى .. أَدِم حنوك دهراً .. وراقصنى فى حانات عشقك ..على أنغام نايي الحزين ) ..! وتبقى الموسيقى مع همهمات صوت مروان خورى هى ستائر النهاية التى انسدلت على أبيات القصيدة فى الختام لتشبه وداعاً حالماً يستبقى دفء الكلمات ويستودع مستمعيها أمانة معانيها ، راجيةً إياهم الاحتفاظ بهذا السحر فى قارورة الروح المخبأة بحنايا النفس.. فكلما تلمَسْنَا فاصلاً هادئاً يعزلنا عن روتين الحياه الخانق، أخذنا نُفتش عن القارورة فحسب ، لنستنشق عبق الكلمات وحلو المعانى..! https://www.youtube.com/watch?v=peHUv7oEQjI المشهد .. لا سقف للحرية المشهد .. لا سقف للحرية