(1) لم يجد هولاكو أملاً في أن الخليفة العباسي سوف يقبل بالتسليم؛ فحاصر بغداد ، ولم يكن جنود العراق علي درجة متكافئة من التسليح أو التدريب ، فضلاً عن عدم إنضباطهم ، بينما كان الجيش المغولي هائلا يبلغ حوالي 200 ألف مقاتل لديهم سلاح أفضل ،ولم يكن هولاكو يتصور أن معركة سقوط بغداد سوف تتم بهذه السهولة ، وفوجئ عند إجتياحه المدينة أنها تتساقط كبيت من ورق ..وقد بلغ عدد القتلي ما يقارب المليونين من البشر ، ولم يخرج هولاكو من بغداد الا بعد ان " ثقل الهواء فيها بما حمل من كريه رائحة الجيف المنتفخة واشلاء القتلى المطروحة في شوارع المدينة " كما ذكرت كتب التاريخ .. مالت الشمس علي كتف بغدادالغربية ، وأستبيحت للغزاة الذين فتكوا بأهلها واستحلوا حرماتها بما تقشعر منه الأبدان .... كان ذلك في عام1258 م ( 656 ه ) حين دخل هولاكو بغداد . (2) في عام 1492م وبعد أن تفرق ملوك الطوائف في الأندلس ، وسقطت غرناطة لؤلؤة العرب في أوروبا ، كان أبو عبد الله آخر ملوك بني الأحمر يجلس فوق السفينة التي حملته مطروداً خائفاً ، وهو يحمل معه بعض المجوهرات من بقايا العز الزائل ، وأجهش بالبكاء بعد أن صار ذليلاً ، فقالت له جاريته : " فلتبك مثل النساء ملكاً ما حفظته حفظ الرجال " . (3) في حرب الخليج الثانية سعي الرئيس بوش الأب وأستطاع أن يوفر ليس فقط الغطاء الدولي للحملة العسكرية ضد العراق ، وإنما – وهو الأهم حينذاك – الغطاء العربي ، وكان الثمن المباشر لهذا الغطاء هو " مؤتمر مدريد للسلام " ، وكل ما تفرع عنه من " أوسلو " و" وادي عربة " وغيرها مما أطلق عليه " عملية السلام " حتي نفد منها البخار .. أما حرب الخليج الثالثة ، فلم يبد الرئيس بوش الإبن نفس الإهتمام فيما يتعلق بمسألة الغطاء الدولي أو العربي ، لم يجد هناك حاجة حقيقية لبذل أي جهد دبلوماسي لتوفير هذا الغطاء حتي مع حلفائه الأوربيين ، واقتصر جهد الإدارة علي الضغط والتهديد والإغراء المباشر وغير المباشر ، وحيث أن الغطاء العربي قد انحسر إلي مجرد إستخدام بعض القواعد والتسهيلات من البعض ، والصمت المبارك من البعض الآخر ، والصمت المعارض علي إستحياء من البعض الثالث ، فأن الإدارة الأمريكية لا تعد مدينة لأحد كي تقدم ثمناً ، وإنما يكفي نثر الوعود ودغدغة الأحلام تهدئة لبعض الخواطر الساخنة لحين إستقرار غبار الدمار في العراق .. لذلك ، وفيما يبدو تحت ضغط من الحليف البريطاني لأسباب سياسية داخلية ، وعدت الإدارة الأمريكية علي إستحياء أنها سوف تقوم بنشر ما يسمي " خارطة الطريق " ، وهو وعد تم تأجيله من قبل لعدة أسباب لا يصح إعتبارها أسباباً موضوعية ، مثل إنتظار الإنتخابات الإسرائيلية حتي لا تؤثر علي نتيجتها ، ثم إنتظار تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة ، ثم إنتظار نتيجة المواجهة مع العراق ، ثم إنتظار تشكيل حكومة السيد محمود عباس ( أبو مازن ) ،ثم بدأت بعض أوساط الإدارة الأمريكية تصرح علناً أنها لن تمانع في " مساهمات " الأطراف في " خارطة الطريق " ، أو بمعني آخر أن هذه الخارطة ليست نهائية وليست مقدسة ... (3) هكذا أصبح مجرد الإعلان عن " الخارطة " في حد ذاته إنجازاً يتم الضغط به علي الطرف الفلسطيني كي يقدم تنازلات ، وهكذا أيضاً يتفق المنطق مع الواقع ، وهو بإختصار : " لماذا تدفع الإدارة الأمريكية ثمن سلعة لم تطلبها وإنما قدمت إليه مجاناً علي طبق العراق ؟ .. لقد قيل ما قيل عن الدنيا التي ستتفجر قبل وأثناء وبعد الغزو الأمريكي في أفغانستان ، وخرجت المظاهرات ، وكتبت التحليلات ، وحذر العقلاء من ثورة العالم الإسلامي المستهدف ، ولكن تم تدمير ما تبقي من أفغانستان ، وذبح الآلاف من خلال القصف الوحشي للمدن والقري البسيطة وبشكل لا يتناسب أبداً مع مطاردة مجموعة القاعدة ، ولم يكد دخان أفغانستان ينقشع ، حتي عادت طبول الحرب تدق بإتجاه العراق ، وقيل أيضاً ما قيل عن العواقب ، وهددت المظاهرات بالويل والثبور وعواقب الأمور ، وكتبت التحليلات ، ولكن تم تدمير العراق ، وذبح الآلاف من أهلها ... ولم يحدث شيئاً .. والآن تدق طبول الحرب مرة أخري في إتجاه سوريا ، وكأنه لا يكفي عاصمة العباسيين وإنما يجب الإنتقال فوراً إلي عاصمة الأمويين ، ومع ما علمناه من تدمير وسطو ونهب للمتاحف والمكتبات في العراق ، فأن المسألة لا تبدو فقط حرباً ضد أسلحة الدمار الشامل ، ولا هي حرب لتغيير النظام ، أو لمجرد الحصول علي البترول ... تبدو المسألة وكأنها حرب ضد التاريخ ، ضد الثقافة ، ضد الهوية القومية ... (4) وبإفتراض صحة الإستنتاجات السابقة ، فهل يكون صحيحاً أيضاً أن سياسة أمريكا في الشرق الأوسط وقد خلعت عنها الغطاء العربي لم تعد في حاجة إلي هذا الغطاء ؟ ، وأنها تستطيع أن تجد الطريق إلي دمشق أو أي عاصمة عربية أخري أكثر يسراً من الطريق إلي بغداد حتي بوسائل غير عسكرية ؟ .. طبقاً لمقال نشر خلال تلك الفترة في صحيفة نيويورك تايمز للكاتب الأمريكي ذائع الصيت " توماس فريدمان " ، فأنه قام بضرب رأسه في الحائط أثناء جلوسه في مقهي الفيشاوي بالقاهرة حين كان يناقش مع بعض المثقفين المصريين " الحرب علي العراق " ، وهو يري أن ذلك الحائط موجود في عقول المصريين والعرب ، رغم إعترافه أن ما حققته أمريكا في العراق حتي الآن هو الفوضي وليس الحرية .. نعم .. المهمة الأساسية لقوات المارينز هي كسر ذلك الحائط حتي تحل الفوضي ، لأن أمريكا وغيرها كانت تعرف قبل غيرها أن ما قيل عن " الحرس الجمهوري العراقي " و" فدائيي صدام " و " أسلحة الدمار الشامل " ، يعرفون – كما نعرف – أنها مجرد دعاية ومبالغة ، وإنما الهدف الرئيسي من الحملة هو نشر الرعب وتكريس العجز ، فلم تكن صواريخ توما هوك وكروز تستهدف جدران مدن وقري العراق وحدها ، وإنما ذلك الجدار التاريخي القومي الثقافي لهذه الأمة . ويتحدثون الآن عن بناء العراق الجديد ، ويمكن القول " أنه من السهل أن تهدم ، ولكن الصعب هو البناء " ، وأظن أنه لن يكون جديداً أن نقول اليوم : " أنه لم يكن صعباً أن تحتل أمريكاالعراق ، المشكلة كانت ولا زالت هي كيف تحكمه ؟ " ... من العدد المطبوع من العدد المطبوع