تطرح الظاهرة الدينية نفسها بإلحاح شديد علي مسرح الأحداث التي يشهدها المجتع المصري في الآونة الأخيرة، ليس باعتبارها شكلا من اشكال الحركة النضالية، وتعبيرا عن جماعات نائبة معينة، لكن بحسبانها نشاطا فكريا يظلل أركان الوجود، وتفرض ذاتيتها علي كل نشاط أو فعل أو تأمل. بيد ان طغيان الظاهرة الدينية يتضح بجلاء في مجموعة الأفعال والممارسات الاجتماعية، إلا أنها تعد من أقل الموضوعات التي تحظي بالبحث والدراسة والتفسير الموضوعي، اللهم إلا في إطار الاحتفاليات الدعائية التي تأتي دوما لصد حالات النقد التي توجه إلي النظام الاجتماعي الاقتصادي القائم، بهدف تدعيمه وتأبيده . إن صعوبة طرح موضوعات الدين علي بساط البحث والدراسة، تأتي من خلال تضخيم الظاهرة وتغليفها بسياج من محرمات، الأمر الذي يخلعها من إطار تطوير تفسيرات ورؤي جديدة تلتصق بها بشكل وشيج . في كتابه "الدين الشعبي في مصر .. من التصوف إلي السحر" الصادر عن دار رؤية للنشر بالقاهرة، يؤكد الدكتور شحاتة صيام ان الدين الشعبي يعتبر أداة من أدوات العوام وغيرهم لحل مشكلاتهم بطريقة ذاتية. ويري شحاتة أن الدين الشعبي جاء كرد فعل للتعامل مع المشكلات الصعبة التي تقف حائلا أمام اشباع الاحتياجات الاجتماعية. إنه نوع من الهروب إلي الدين باعتباره ملاذا نتيجة لعدم تحقيق الاحتياجات الاجتماعية . التصوف قسم الدكتور شحاتة صيام كتابه إلي خمسة فصول بدأها بالتصوف : الأصل والمفهوم والنظرية، ثم نشأة التصوف في مصر : التاريخ والتطور، وفي الفصل الثالث تحدث عن ممارسات الدين الشعبي : التأييد والتفنيد، وفي الرابع أزمة الخطاب الصوفي .. الخروج عن النص وختم كتابه بفصل عن السحر والتصوف ..الممارسة العملية . عن أصل التصوف، قال شحاتة ان الكلمة تعود الي اليونانية صوفيا التي تعني الحكمة. فيري البيروني أن هناك صلة قوية بين كلمة صوفي وصوفيا التي أطلقها اليونانيون علي بعض حكماء الهند القدماء الذين تميزوا بحياة التأمل والعبادة، ومنذ زمن ليس بقريب، وتعني كلمة صوفي الزهد في الدنيا والإعراض عن اسباب زينة ومظاهرها الحياة . وحري بنا أن نوضح أن هناك رفضا من جانب بعض المتصوفة لهذا الوصف، لأن الحكيم في الواقع هو في مقام أدني في مقامات الانتماء في طريق التصوف . وهناك من يري أيضا بعيدا عن قواعد اللغة والاشتقاق أن الصوفية تعود إلي الصلاة في الصف الأول، وهناك من يرجعها إلي قبيلة بني صوفة، تلك القبيلة البدوية التي كانت تعيش حول البيت في الجاهلية، وتنسب إلي رجل يدعي الغوث بن مر، الذي كانت أمه قد نذرته للكعبة لو لم يمت مثل بقية إخوته، وعلقت في رأسه صوفة، والتي ظلت عالقة به فيما بعد، حتي أطلق عليه صوفة نسبة إليها. وهناك من ينسبها إلي قبيلة عربية عرفت بالاستغراق والمحبة وطاعة الله. ويقول ابو محمد عبدالحافظ: "إنهم قوم كانوا في الجاهلية انقطعوا إلي الله وقطنوا الكعبة، فمن تشبّه بهم فهم الصوفة او الصوفانة. وثمة رؤية أخري تري ان تعريف الصوفية أخذ من صوفة القفا، وهي الشعيرات التي تنبت من مؤخرة الرأس، أو أن المتصوف معطوف به الحق منصرف عن الخلق. أو بمعني آخر، إن الصوفي ينصرف عن الخلق إلي الحق. طوائف وملل ونِحَل في الفصل الثاني حول نشأة التصوف في مصر، قال صاحب الكتاب إن تعدد الطوائف والطرق والملل والنِّحل خلق تعددا مماثلا في تأويل الدين وفقا للمنابع الأيديولوجية لكل شيخ من شيوخها، الأمر الذي أوجد لكل شيخ طريقته ومنهجه سواء في القيادة أو في مظاهر الوعي الديني التي تتمثل بشكل سافر في ممارسة الطقوس والشعائر. إن ثمة اختلافا بين الطوائف أو الطرق سواء في الممارسات أو حتي في التسمية التي كانت تأتي وفق اسم الشيخ ، فالطريقة المحاسبية تنسب إلي الحارث بن أسد الحاسبي والبسطامية نسبة إلي أبي يزيد البسطامي، والقصارية إلي حمدون القصاري شيخ الملامتية، والجندية نسبة إلي أبي محمد الجنيد، والنورية نسبة إلي الحسين النوري ، والعزمية نسبة إلي الشيخ أحمد ماضي أبو العزايم، والبرهانية نسبة إلي الشيخ محمد عبده عثمان البرهاني، وغيرها. والواقع ان نشأة الطرق علي يد هؤلاء الشيوخ، أفرغت نوعا من الاستسلام لبعض الأتباع أو التلاميذ الذين كونوا جماعات صغيرة تلتف حول الشيوخ وكبار النساك والأولياء، تلك التي أسهمت فيما يعرف بنظام الإخوان في الإسلام، ومن ثم نشأة الزوايا والخوانق منذ نهاية القرن الثاني الهجري . إن طرق التصوف وفقا لذلك يمكن ان تكون ظاهرة اجتماعية أكثر من كونها ظاهرة دينية. لكن وفقا لتصوراتهم، فإن كانت هذه الطرق هي الوسيلة إلي الله، فإن هذا الطريق يحتاج إلي مرشد أو شيخ، من لا شيخ له فالشيطان شيخه، ذلك الذي يعد وسيطا بين الله وعباده. إن الوساطة بين الله وعباده من خلال الشيوخ خلق لهم سلطة ونفوذا كبيرين، ذلك الأمر يتنافي مع تعاليم الإسلام. إنهم في ذلك وفق تعبير توفيق الطويل يحاكون سلطة الرؤساء في الديانة المسيحية التي ذكرنا بها انجيل متي ( 16 19 ) حيث يقول ..أعطيتك مفاتيح ملكوت السماوات، فكل ما تربطه علي الأرض يكون مربوطا في السماوات، وكل ماتحله علي الأرض يكون محلولا في السماوات ... الدين الشعبي في الفصل الثالث، تناول شحاتة صيام ممارسات الدين الشعبي بين التأييد والتفنيد مستندا إلي عشر حالات تنتمي للطرق الصوفية ذات الممارسات الفارقة والتي لها افكار وطقوس خاصة، أول هذه الحالات اطلق عليها : الشيخ المزدوج، ويري صاحب هذه الحالة (يعمل واعظا بأحد المساجد التابعة لوزارة الأوقاف بمدينة الفيوم) أنه اخذ القبضة (العهد) من الشيخ جودة البكري صاحب الطريقة الخلوتية، والذي يصفه بأنه ذو كرامة كبيرة، يذكر منها ان احد الجان ويدعي شمهورش الذي أخذ القبضة عن الرسول إبان دعوته، والذي ظل علي قيد الحياة إلي ان أخذ القبضة عن الشيخ البكري. ثم يأتي بذكر كرامة أخري كانت السبب في انتمائه إلي هذه الطريقة. وفي هذا يقول، إن هناك بلدة تسمي قنبشة، استهزأ أهلها بابن الشيخ ويدعي عبد العليم الذي هو وريث والده في قيادة الطريقة، الأمر الذي دعا أحد الجان إلي إقامة النار في البلدة برمتها، فأودت بحياتها ولم تذر. إن هذه الكرامات علي حسب ذكر صاحب هذه الحالة هي التي جعلته ينجذب للطريقة الخلوتية الجودية. اما الحالة الثانية فتسمي بالمريد المجاز، ويري صاحب هذه الحالة أنه انضم إلي الطريقة الرفاعية منذ ما يفوق عقدا تقريبا، حيث كان صديقا لشيخ الطريقة ( م . ر) ابن الشيخ (ر) صاحب أحد المقامات الموجودة في قرية المحمودية بمركز سمسطا بمحافظة بني سويف، والذي يقوم به احتفال سنوي في الأيام الأولي من شهر اكتوبر ويعتبر صاحب هذه الحالة هو نائب الخليفة في بلده، حيث يسخر ذاته وبيته وأولاده لخدمة الطريقة . وعلي الرغم من ان صاحب هذه الحالة يعمل فلاحا، فإنه مجاز من قبل الشيخ. إن الإجازة التي منحها الشيخ له . وتكفل له إعطاء العهود لكل من يرغب في نهج طريقة الرفاعية، كما له، الحق في إقامة الاحتفالات وحلقات الذكر التي يحضرها في بعض الأوقات شيخ الطريقة وإذا كانت الطريقة الرفاعية بقرية سمسطا تقوم بالاحتفال والمناسبات السنوية، فإنها أيضا تقيم حلقات الذكر أسبوعيا. وعادة ما تخرج هذه الحلقات خارج إطار المسجد، إذ تقام بناء علي دعوات بعض الناس، التي تقوم بالإنفاق عليها وتقدم العون المادي. وتسمي الحالة الثالثة الشيخ النائب ويقرر صاحب هذه الحالة منذ البداية انه ينتمي إلي الطريقة البيومية الأحمدية الشاذلية، التي يعود تأسيسها إلي الشيخ علي نور الدين البيومي، والذي يوجد ضريحه في حي الحسينية التابع لقسم الجمالية بمدينة القاهرة. ويذهب صاحبنا إلي ان الشيخ علي البيومي يعد من أعظم أقطاب التصوف الذي يلقب بسلطان الموحدين وباشة الإمارة. وإذا كان الشيخ البيومي هو مؤسس الطريقة البيومية الأحمدية الشاذلية، فإن أمورها الآن تؤول إلي الأستاذ أحمد أبو الفضل المقيم بالقاهرة. وإذا كان صاحب هذه الحالة ينتمي إلي الطريقة البيومية ويرعي أمورها في إحدي قري الفيوم، فإنه في الوقت عينه ينتمي الي الطريقة البكرية التي يرجع نسبها إلي محمد بن أبي بكر رضي الله عنه أول الخلفاء الراشدين. والحالة الرابعة هي ابن الشيخ المريد وصاحبها هو ابن شيخ الطريقة القادرية الجيلانية الذي ورث عن جده قيادة هذه الطريقة أما الطريقة الخامسة فتسمي نائب شيخ السجادة وصاحبها هو نائب السادة الغنيمية الخلوتية بالراهبين بمركز سمنود دقهلية وتسمي الحالة السادسة بالمرشد التكنوقراطي ويعمل صاحبها مهندسا مدنيا وهو يعتبر مرشدا لجماعة آل العزائم بكفر الشيخ، وهي إحدي الطرق الصوفية التي تستند دعوتها باعتبارها منارة للسائلين وعزما وإدارة للمجاهدين، وقوة ايجابية لحماية الإسلام وصيانة العقيدة ونشر الدعوة بعيدا عن الزيغ الإلحادي . وتسمي الحالة السابعة بالمريد الملتزم وينتمي صاحبها للطريقة الخلوتية الدومية بطهطا بمحافظة سوهاج، وهي طريقة أم لها مجموعة من الفروع علي مستوي الجمهورية. أما حالة المريد الدارس فينتمي صاحبها للطريقة الخليلية وهو طالب بالفرقة الرابعة بإحدي الكليات، أم صاحب حالة المريد الممارس فهو مريد في الطريقة الأحمدية ويعمل موظفا بشبكة المياة بمدينة سمنود غربية. اما الطريقة العاشرة فتسمي بالايديولوجي المتصوف وهي من الحالات الخاصة، إذ يعتبر صاحبها أنهم ليسوا بجماعة أو طريقة، وإنما هم مجموعة صغيرة من المحبين في الله ورسوله. أزمة الخطاب الصوفي ويأتي الفصل الرابع في كتاب "الدين الشعبي في مصر من التصوف إلي السحر" ليناقش أزمة الخطاب الصوفي متناولا إحدي الوثائق التي تعبر عن وجهات نظر، او قل خطاب إحدي الطرق الصوفية المتخارجة عن التنظيم الصوفي، سواء من حيث الفكر او الممارسة. إن دراسة الخطاب الصوفي بوصفه وحدة نصية، يعني اننا نقف موقفا ناقداً له علي مستوي الوعي والأفكار المتضمنة التي يتم تفعيلها في الواقع المعايش، أي اننا هنا نبتعد كل البعد عن الممارسات التي قد تدخل في باب التشهير بها، لا في باب العلم. ويختتم د. شحاتة صيام كتابه بفصل يتحدث عن السحر والتصوف مؤكدا انهما لا يفترقان. فالسحر باعتباره خرقا للعادة، وان الكرامة لدي الصوفية خروج عن المألوف، فإن الاستمرار في الرياضة التي توصلها إلي ما يسمي بالحلول والاتحاد، وتجعل الخوارق هي هي الكرامات والسحر، ويكون استخدام الطلسمات من الأوفاق والدخنة والعزائم الجزء المتمم لهما، وهو عين ما دفع به يوما ما الغزالي إذ يقول: .. السحر هو عمل وكلام قد تداولوه بينهم في أوقات معينة، وطوالع معروفة وطلسمات مضروبة، فإذا أردنا ان نولد طلسما يصلح لما تريد فخذ ثلاثة حروف وقم بتكسيرها، فإذا اجتمعت ثلاثة احرف من تسعة قم بعمل الطلسم ... وانظر في ساعة التأليف، إذ يصلح لما دلت عليه الدقيقة في الساعة.