يقول أبوتمام الطائي: نقّل فؤادك حيث شئت من الهوي ما الحب إلا للحبيب الأول هكذا نشأت الصداقة والحب بيننا نحن جيل أواخر الأربعينات من القرن الماضي، كنا صادقين أوفياء لرسالة الشعر فن العربية الأول أحببناه فأحبنا، أخلصنا له فأخلص لنا، وكانت الكلمة الشاعرة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وتغنينا بقول الشاعر: ولد الشاعر العظيم ملاكا طبع الوحي قبلة فوق ثغره فتغني ما شاء أن يتغني بخلود قد ضل عن مستقره فإذا شدوه وليد أساه وإذا حلوه عصارة سره كان كمال قد عاد من مدينة الإسكندرية واستقر به المقام في القاهرة وعمل مدرسا للغة العربية، وتعارفنا في مقهي بحي شبرا كان يرتاده أدباء وشعراء ونقاد وباحثون منهم الناقد الكبير الراحل الدكتور عبدالقادر القط الذي كان يشرف علي أطروحة دكتوراة لكمال. جماعة أدبية وفي هذه الآونة أنشأ شاعرنا جماعة أدبية مع محمد الفيتوري وفوزي العنتيل، وقد سموا هذه الجماعة رابطة النيل الخالد.. كان ذلك في أواخر الأربعينات، وكنا ننشر أشعارنا نحن وإبراهيم شعراوي حفظه الله وكمال عمار علي صفحات مجلة العالم العربي التي كان يرأس تحريرها الكاتب الصحفي الأستاذ أسعد حسني، وكم كانت فرحتنا الغامرة ونحن نقرأ أسماءنا وقصائدنا ومقالاتنا جنبا إلي جنب الكبار مثل الأديب الناقد العظيم محمد منير الشوباشي وغيره من أعلام الأدب والفكر والنقد كالناقد الكبير مصطفي عبداللطيف السحرتي الذي يستحق أن تكرم ذكراه وتلقي علي إنتاجه الأضواء ويوجه أساتذة الجامعات طلاب الدراسات العليا إلي إعداد رسائل أكاديمية عنه حتي لا يصدق قول شوقي عن مصر: بلد كل شيء فيه ينسي بعد حين بين نشأت وإبراهيم ناجي استلهم كمال نشأت ابنته الوحيدة نهاد قصيدة من روائع الشعر الحديث بعنوان «نامت نهاد» وهي مازالت طفلة في المهاد، فكان لهذه القصيدة الفريدة وقع شديد الأثر في الساحة الأدبية، وتناولها النقاد بالدراسات التي تنم عن إعجابهم وتقديرهم لموهبة كمال نشأت، وتزايدت شهرة شاعرنا بعد حدث طريف، ذلك أن نشأت أرسل عددا من قصائده إلي الشاعر إبراهيم ناجي لكتابة مقدمة لها، ولما رحل شاعر الأطلال عن عالمنا قام الشاعر الكاتب الصحفي صالح جودت بجرد أعمال ناجي الشعرية فوجد من بينها قصائد نشأت، فظن أنها من إبداع ناجي ونشرها في كتاب عن الشاعر الرومانسي الكبير وصحح نشأت هذا الخطأ في مقال صحفي مما أحدث ضجة في الساحة الثقافية وأدي إلي مزيد من شهرة كمال نشأت. رحلة إبداعية وواصل شاعرنا رحلته الإبداعية حتي اعتبر من رواد قصيدة التفعيلة التي سطع نجمها في الخمسينات، وأصبح مبدعها من كبار الشعراء لا في مصر وحدها، بل في الوطن العربي كله، ولا سيما أنه كان غزير الإنتاج، وقد صدر له عديد من الدواوين أولها «نامت نهاد» وأحدثها بعنوان «قصائد قصيرة» التي ضمت ما نسميه قصائد الومضة التي يعد كمال نشأت من روادها أيضا. وقد اشتهر الشعر الياباني بإبداع شعر الومضة في قالب يسمي «الهايكو» ومازال في الصدارة من الأدب العالمي، وهو يتسم بالقصر في العبارة والكثافة في المعني وروعة التصوير، وكأن القصيدة الواحدة التي لا يتجاوز طولها سطرين أو ثلاثة عالم بأكمله، ونظرا للإيجاز الشديد في شعر الومضة فإنه تنطبق عليه مقولة «خير الكلام ما قل ودل» ومقولة محمد بن الجبار النقري: إذا اتسعت الرؤية قصرت العبارة. الإنتاج النثري مثلما كان كمال نشأت غزير الإبداع الشعري كان وافر الإنتاج النثري ولاسيما في النقد الأدبي انطلاقا من تخصصه الأكاديمي، حيث عمل أستاذا بأكاديمية الفنون بمصر وأستاذا في العراق، ثم الكويت حيث التقيته في أمسية ثقافية أقامتها لي رابطة الكتاب وألقيت فيها محاضرة قدمني فيها الشاعر الكبير الدكتور خليفة الوقيان، وعقب عليها شاعرنا والشاعر الراحل عبده بدوي، وقد اغرورقت عينا نشأت بالدموع حين تصافحنا إذ كنا لم نلتق عدة سنوات كنت فيها مقيما في الجزائر التي لجأت إليها بسبب معارضتي لمعاهدة كامب ديفيد التي عقدها السادات مع بيجن. ومن أبرز منجزات كمال نشأت تشجيعه للجيل الجديد من الأدباء والشعراء، فقد اشترك مع الشاعر الراحل الكبير عبدالمنعم عواد وكاتب هذه السطور في برنامج «مع الأدباء الشبان» الذي تعده وتقدمه الإعلامية الشاعرة الكبيرة الأستاذة هدي العجيب. بلا تعصب وقد كان شاعرنا واسع الأفق غير متعصب للغة العربية رغم عشقه الحميم لها، فضم صدره الرحب شعراء العامية ونشر كتابا بعنوان «عاميتنا الجميلة» قدم له بقوله: «الشعر المصري ثروة قومية فصيحا وعاميا، كبار شعراء العامية وهم: بيرم التونسي، أبوبثينة، فؤاد حداد، مرسي جميل عزيز، صلاح جاهين، نجيب سرور، أحمد فؤاد نجم، سيد حجاب، الأبنودي، يسري العزب، ماجد يوسف، شفيق سلوم، سمير عبدالباقي وغيرهم، وقد قدم نشأت بالعرض والتحليل نماذج من شعرهم تقديما يدل علي حفاوته بشعر العامية المصرية وعلي قدرة فذة علي استشفاف ألفاظه ومعانيه وتعبيره وتصويره للروح المصرية. مدرسة أبوللو تعد كتابات كمال نشأت عن مدرسة أبوللو ورائدها الدكتور أبوشادي مرجعا أساسيا لا غني عنه في هذا الموضوع، لعمقها وشمولها، إذ لم يدع شاردة ولا واردة إلا أحصاها وتناول جوانبها المختلفة. لقد رحل الدكتور الشاعر كمال نشأت عن عالمنا ولكنه باقٍ بإنتاجه الكبير ودوره الريادي في الساحة الأدبية. إنه طائر البجع المسحور رحمه الله وأثابه بقدر ما أفاد جيله من أدبه وعلمه. وبعد، فتلك اطلالة عابرة علي حياة الشاعر الكبير كمال نشأت نختتمها بتقديم ثلاث قصائد ومضية له اخترناها من ديوانه «قصائد قصيرة»: علاقة علاقتي بقلبك الجموح علاقة الشراع بالعاصفة سلِّمي كفك بين كفي غمام يرتجي النداوة علي ورود هوَّمت بروبة السلام فسلِّمي يهطل المطر تمنيت تمنيت هذا الجناح جناح الطيور وما كنت أدري بأني سبقت الطيور بأجنحة سكنت في الذري