ظاهرة الطيور المهاجرة هي إحدي أهم الظواهر الحضارية والاجتماعية والثقافية منذ الكاتب الفرعوني الثائر سنوحي الذي هاجر من موطنه في مصر ضيقا مما عاناه من شعور بالاغتراب في وطنه، وبحثا عن الحرية في مكان بعيد مهما استبدت به آلام الفراق والحرمان من رؤية أحبابه وأقربائه ومعايشتهم وقديما قال الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد: وظلم ذوي القربي أشد مضاضة علي المرء من وقع الحسام المهند إنه المنفي الاختياري لطلاب الحرية والعدل يرفضونه بديلا عن الإحساس بالفن في بلادهم، مثل الشاعر التركي العالمي ناظم حكمت، إذ كان مضطهدا في وطنه وسجينا عديدا من الأعوام بسبب اتجاهه الاشتراكي التقدمي، وتعاطفه مع المحرومين والفقراء وكان عاشقا للحياة لا لنفسه ولأحبابه الأقربين فحسب، بل لكل البشر في كل زمان ومكان ولاسيما المستضعفين والمعذبين في الأرض، فاضطر إلي مفارقة بلده وأهله إلي بلاد الله الواسعة بعد أن أفرج عنه الطغاة رضوخا للرأي العام العالمي. أندريه شديد في عاصمة النور هكذا غادر ناظم حكمت وطنه مثل كثير من المفكرين والكتاب والشعراء المناضلين الذين لا يخشون في الحق لومة لائم، بيد أن كثيرا من رجال الفكر والأدب تركوا بلادهم واتخذوا غيرها مقاما اختياريا، ليتنفسوا هواء أفضل، أو ليرتشفوا من كئوس حضارتها وثقافتها، ومن هؤلاء الشاعرة أندريه شديد، وهي عربية الأصل كما يدل علي ذلك ا سمها، فموطنها لبنان، وتنتمي بالمولد إلي مصر، إذ فتحت عينيها تحت سماء القاهرة سنة 1920، وفي الرابعة عشرة من عمرها، هاجرت إلي باريس مدينة النور ومعشوقة المفكرين والفنانين والشعراء حتي استقر بها المقام منذ 1948 حتي رحلت عن عالمنا أخيراً. فهي ابنة ثلاث حضارات وثقافات أورثتها الشعر في شفافيته والفكر الإنساني في رحابة أفقه، وعبق التاريخ علي نهر النيل والبحر الأبيض المتوسط ونهر السِّين وشموخ الأرز، وكانت الحضارة الفرنسية هي الأشد أثرا في حياتها وإبداعها، نهلت ينابيعها منذ المناداة بالحرية الفردية حتي اندلاع نيران الثورة الشعبية التي مهد لها كبار المفكرين والأدباء وعلي رأسهم فولتير ومونتسكيو، ومن ثم انعكست علي قصائد أندريه شديد وفي رواياتها، وقصصها آثار أعمال هؤلاء العظماء وقد لمحنا في تلك الأعمال الأدبية نكهة شرقية. أرفع وسام فرنسي في شهر يونية سنة 2000 منحت فرنسا أندريه شديد وسام جوقة الشرف وهو من أرفع الأوسمة الفرنسية، وذلك عرفانا بما قدمته للأدب والفرانكفونية العربية منذ أكثر من خمسين عاما، وقد كلف الرئيس جاك شيراك رجل الأعمال المصري والمستشار السابق للبابا شنودة بطريرك الكرازة المرقسية أيمن فخري عبدالنور بتقليد الشاعرة الوسام بالنيابة عنه في حفل أقيم في اليوم الثاني من شهر يونية، وهو ما يحدث لأول مرة في تاريخ هذا الوسام الرفيع، وأعرب الدكتور بطرس بطرس غالي أمين عام منظمة الفرانكفونية الدولية عن سعادته بفوز أندريه شديد بهذا الوسام، ولاسيما أنه يأتي بعد ساعات من اختتام أعمال الندوة الدولية التي أقيمت بمعهد العالم العربي حول الفرانكفونية والعالم العربي.. حوار الثقافات وجدير بالذكر أن من أشهر أعمال أندريه شديد الفيلم السينمائي «اليوم السادس» الذي أخرجه يوسف شاهين. وقد كان من حسن طالعي أن قرأت في أثناء إقامتي بالجزائر «1977 - 1987» ديوانها «كهوف وشموس» فبهرني إذ تبين لي أن مبدعته تجنح إلي المثالية المفرطة في الاستبطان الذاتي وتقطر شجي والتياعا، فهي مسكونة بالمأساة الإنسانية وتصاريف القدر، وتبلغ لغتها الفرنسية ذروة إبداعية في التشكيل والرمز وسائر التقنيات الجمالية التي بلغتها الحداثة الشعرية في القرن العشرين. وتدور رؤي أندريه شديد حول محاور ثلاثة أساسية هي العشق والحياة والموت أو الكون والفساد حسب المصطلح الفلسفي القديم، ومن ثم فان الزمن «الحضور والغياب، الازدهار والاندثار» يشكل وترا لا تمل الشاعرة العزف عليه في قيثارتها المرهفة الشجية التي تستوحي في بعضها الطبيعة، حيث نسمع صدي شخشخة أوراق الخريف، إذ تتساقط أعلي من صوت مواليد الربيع، وتحتل الهواجس النفسية مساحة أبعد مدي من صرخات الجموع المستضعفة في عديد من بلاد العالم، وهي تشق طريقها الصعب الوعر لتضع حدا لعذاباتها وتفتح كوة من النور في الجدار الأصم الأسود الذي صنعه أعداء الإنسانية. صوت إبداعي متفرد ويبقي لشاعرتنا اللبنانية المصرية الفرنسية صوتها المتفرد في التعبير عن الجسر غير المرئي بين الحقيقة والحلم، كما نري في تصويرها اختلاج القمر والشمس السجينة، وقدرتها علي التقاط الخيط الرفيع بين الجسد والروح، بين البقاء والرحيل، بين القلق الميتافيزيقي والواقع المادي المعيش، ويصدق علي تأملاتها الشعرية التجريدية قولها: «إن زمن القصيدة لحظة، وقوة الشاعر ورهافة حسه المفرطة تؤديان به إلي اكتشاف عمق هذه اللحظة، فلا يكتفي بالوصف وبترديد بعض المشاعر السريعة». وقد اخترنا القصيدتين الآتيتين من ديوانها «كهوف وشموس» للترجمة كنماذج ممثلة للسمات والخصائص التي يمتاز بها شعر أندريه شديد: «1» أصحب ذاتي أصحب ذاتي بجسم يحاكي انحناء الأوراق تساقطها وئيدة في الخريف المخملّي معلقا بين مكان هنا وبين الزمن دون سلم أصحب ذاتي أمضي بها في غياب وثير تتبدد كل جاذبية أتخلص من تخومي القاصية حدود الممكن تفر انقطع للحياة المؤقتة «2» كي استبقي اللحظة بالجسد كله أقيم الحرس لأستبقي اللحظة أسهر وامقة مولهة وأحارب الحذر الفكر يتجمد وتتحلل الحروف عضو فعضو يجتلبني النعاس يهيمن علي دمي يشدني إلي فوهات الغياب يقودني مثل خشب ميت إلي ساحة العدم أو التكاثر ستلقفني كهوف أو شموس وبعد فقد تراسلت والشاعرة أندريه شديد آنا من الجزائر حيث بعثت إليها بترجمتي بعض قصائدها إلي العربية فأجابتني متحدثة عن مصريتها مثلي، وكيف لا يزال ماء النيل ينساب في حناياها وشمسه تطل عليها فتخرج من كهوف عزلتها وتستظل بحنينها الغامر إلي وطن الميلاد مصر، وتنهل من ينابيع روسو وفلنير وفكتور هيجو، عليها السلام والرضوان بما أعطت من كنوز الإبداع والإلهام، هذه الشادية العذبة المتفردة.