في مركز الجزيرة للفنون معرض للفنان حمدي عبد الله بعنوان "أساطير معاصرة" وقد عرفه الفنان في ورقة المعرض بأنه يدور حول "وضع الإنسان في كل زمان ومكان".. وهذا يتناسب للغاية وتقديمه لأعماله من حيث هي حدث خاص حيث لوحات المعرض جميعها رسمها طوال عام كامل من الثورة تعكس وضعاً انسانياً عاماً من منظور فلسفي لرؤية تكرارية الأحداث الدنيوية في عالمنا كأننا كبشر في اي زمان ومكان لا نخرج عن أحداث دائرة مغلقة علينا في تكرارية ابدية.. وهذه سمة اعمال الفنان الكبير حمدي عبد الله صاحب الرؤية المتأملة في كثير من مراحله الفنية ومعارضه حول وضع الإنسان ووجوديته في الكون التي ليست بوضع سعيد قدر ما كله معاناة.. وهذه هي رؤية الفنان التي عبر عنها في كلمته ولوحاته في العرض.. إلا ان عنونة الفنان الكبير مصطفي الرزاز للوحات التي ألحقها بكلمته في كتالوج معرض حمدي عبد الله جاءت لتحد الرؤية الإنسانية الواسعة التي أرادها الفنان حمدي لرسالته الفنية حتي انه عرض لوحاته دون اية عناوين إلا ان العناوين التي وضعها الرزاز لأعمال عبد الله أخذت من الأعمال عمقها وأعطتها المباشرة لتجعلها كأنها رسومات ملحقة بنص ادبي خاصة والعناوين جاءت في عبارات ادبية تفسيرية وصفية بسطت من عمق العمل الرمزي في محاولة مضاهاة النص بالصورة فأوقفت المشاهد عند الكلمات وسرقت من اللوحة عمق الرمزية والدلالة الكونية التي ارادها الفنان.. ومن عناوين الرزاز للوحات عبد الله : " النظام المتشبث بالأرض بين الثوار والفلول".. " معركة الجمل وتحدي الحاضر".. "آلة قتل الثوار - القناصة المجهولين ".. "طائر شيطاني يحط علي رأس المومياء - الحنين للنظام المخلوع ".. " صندوق الانتخابات مستقبل ارث التوريث الفرعوني للتابوت العلوي بحماية ودعم طير الظلام".. "موكب الفلول".. "المحاكمة الوهمية".. "المحاكمة التي لا تنتهي والناس تنتظر".. "خطف الثورة".. " التوريث مرة أخري الملك العليل ينظر الي ابنه الوريث وهالة الحكم محلقة تقترب من رأسه".. "الطرف الثالث".. "الإعلام يراوغ".. "حرق الوثائق".. "السباق الي السلطة".. "رموز النظام في طره يحمل كل منهم خرطوشاً ملكياً قديماً".. "آسفين يا...." . هذه بعض من 95 عنواناً بنفس الطريقة لتوحي بأن المعرض عمل ساخر أو يكرر نفسه رغم انه لا يكرر نفسه بل ويتميز بالثراء الشديد لولا العناوين التي خنقت المضمون في زاوية واحدة وتحول العنوان الي موضوع صرف المشاهد قارئ الكتالوج عن البحث والاكتشاف وكان يمكن ان تحمل اللوحات ارقاماً للتمييز ولا ضرورة للعرض اللغوي الموازي فلا احد يسأل مثلاً عن موضوع قطعة موسيقية أو موضوع بناء معماري.. خاصة واعمال حمدي عبد الله تقوم علي تحول الحواس من عمل لآخر لأنه - علي ما أعتقد - يضع نفسه علي عدة مستويات من الحدث الواحد ويتنقل من مستوي لآخر حتي يبلغ عمق الحدث بتسجيله لتتاليات من تيار اللاوعي فقد بدأ من الوعي حتي بلغ مناطق اللاوعي بينما حين يتعامل المشاهد ولوحاته نجده من خلال رؤيته يقوم بعملية عكسية تتعامل واللاوعي حتي يبلغ الي الوعي اي تبلغه رسالة الفنان.. ومن جانب آخر ربما خاص برؤيتي أجد أعمال حمدي عبد الله هي صورة " مغارة" العقل حيث كل شيء صغير وكبير ومهم وغير مهم لكنه داخل مغارة مظلمة لا يمكننا رؤية محتواها الا بالصبر وتعويد العين علي التحديق في الظلام حتي يلقي لنا العقل او اللوحة ببعض ما عندها من رموز وطلاسم نحاول تفهمها بهدوء وتأمل عميق.. وأيضاً هي صورة للمغارة داخلنا.. مغارة الروح حيث موقع السحر.. وهذه الأخيرة هي رمز البصيرة وعينها المبصرة في أحلك الظلمات. ولوحات الفنان الكبير أجدها عالم اقرب لميتافيزيقية روحية عنها كلوحات سيريالية دون أسطورية الدلالة كما أسمي الفنان لوحاته جميعها بأنها" أساطير معاصرة " لأن ما عبر عنه في لوحاته من حدث "الثورة" قدمه من خلال رؤيته للإنسان ووجوديته المعقدة كعالم صادم مأساوي شديد الواقعية وكحدث واقعي وليس حدثا أسطوريا لتزدحم لوحاته بالتوابيت والسلالم والقضبان والديدان والثعابين والغربان والمشانق واشباه التماسيح والفئران والكلاب والاسماك المهجنة.. وربما قصد الفنان بلفظ " أسطوري " استدعاء مالا يتوقع أو ما هو قديم لا ندركه كأننا كمن ينظر الي الماضي حتي ولو كان المعني رمزياً تماماً مثلما ننظر الي ضوء النجم نراه ساقطا الينا بينما النجم نفسه ربما اندثر من ملايين السنين وما زال الضوء مجرد الضوء هو الباقي والدال علي وجوده يوماً ما.. كذلك ربما اراد الفنان ان عيشنا الواقع واهمين لم ندركه وهماً إلا بعد بعد فوات الأوان . والفنان بعالمه الخاص أضفي علي الحدث الواقعي اكثر من عمق برؤية كابوسية رغم انه لا يزال فناناً حالماً برغم وطأة الحدث وقد لجأ الي حفظ نقاء شخوصه - فيما اعتقد - داخل شرائط ولفائف مومياوات حافظا لها لتبعث علي ارضها بروح وجسد نقي جديد وجعل الكثير من شرائطها تأخذ في الانفكاك علامة البعث الجديد الشاب.. أو جعل أنقياء شخوصه علي هيئة شرنقية توحي بأنها في طريقها لتتكون كفراشة أو كروح شهيد.. وعبر الفنان عن كل من اساء لشخوصه بهيئات بشرية ممسوخة او علي هيئة حيوانات مشوهة خرافية التكوين والسلوك تشبه البشر او هم يشبهونها أو علي هيئة ديدان اميبية "البرامسيوم" المتسلقة والتي من طبيعة تركيبها انها بلا جهاز عصبي ولا اعضاء للحس بالمعني المفهوم للحيوانات الراقية وفي هذا اسقاط مباشر علي الساقطين من وعي الشعوب بلا حس او ضمير. وكأن الفنان حمدي عبد الله وضع في لوحاته خططاً وراثية لأشكال متحولة لمخلوقات صغيرة طفيلية ديدانية تخترق الجسد الأكبر تنهشه وتمزقه وتفجره من الداخل محولة اياه الي رماد سهل التطاير.. وفي لوحاته لم يقصد الفنان الي الخطوط الحادة او الهندسية لتوحي بالقسوة بل اكتفي بالخطوط الديدانية الموحية بالزحف والشد المؤلم للجسد المنهوش.. ثم جعل من الخط الانسيابي في لوحاته استمرارية ايجابية لها قوة حية نابضة ومتأججة في عملها الدؤوب حتي جاوزت محيطها وواقعها الواهم الي الخروج المندفع من الكابوس.. كابوس الواقع وكابوس أسطورة الواقع.