أخيرا جاءت تصريحات السيد عمر سليمان عن الدور الذي اضطلع به جهازه في الاتصال بالإخوان لتضع النقاط علي الحروف حول الطريقة التي تعامل بها النظام مع الجماعة (الوحيدة الفريدة) ومع مجمل الحياة الثقافية والسياسية في مصر. يقول مدير الجهاز السابق والمرشح الرئاسي المرفوض إن الهدف كان (ترشيد تعامل الإخوان مع الدولة وتصحيح نواياهم تجاه النظام وإن المخابرات كانت حريصة علي جعل الإخوان يشاركون في الحياة السياسية والمجتمعية لمصلحة مصر والمواطن المصري ، وألا نصبغ الدولة بالصبغة الدينية التي تريدها جماعة الإخوان) وقال رئيس المخابرات السابق: (لكن الإخوان لم يتخلوا قط في يوم من الأيام عن فكرة القفز علي السلطة، وفي كل مرة يتم القبض علي بعض عناصرهم والتحقيق معهم نجد أن نيتهم في القفز علي السلطة والوصول للحكم لم تتبدل أو تتغير، موضحاً أن ذلك كان سببا لتعرضهم للهجمات والاعتقالات، لأنهم كانوا يهددون النظام والسلطة) . للعري وثيقة في مقال سابق لكاتب هذه السطور نشر في جريدة القاهرة بتاريخ 25-11-2008 تحت عنوان (للعري وثيقة) جاء فيه ما يلي: يحكي أن سيد الغابة أراد أن يثبت للناس قدرته علي ترويض المتمردين ونزع أنياب المخربين فكان أن جمع الفئران الذين لم يتركوا شجرة إلا وقرضوها في (جِوال) وسار بهم مسافة طويلة دون أن يتمكن أحد منهم من استخدام أسنانه للهروب من الجوال، ولما سألوه عن السبب في عدم تمكن أي من الفئران من الفرار من الجوال البالي، قال كنت أحركه دوما من أعلي إلي أسفل ومن أسفل إلي أعلي فانشغل الفئران بنهش بعضهم البعض عن محاولة الفرار!! فات سيد الغابة أن ليس كل سكانها من الفئران فهناك أصناف أخري من الحيوانات لا يمكن حملها في جوال ولا يمكن إلهاؤها بتلك الحيل الساذجة التي تعود علي استخدامها انتهي. خرج سيد الغابة إذاً من عرينه كاشفا للناس عن سياسة أقل ما توصف به أنها سياسة فاشلة أودت برئيسه إلي السجون أما هو فستودي به إلي زوايا النسيان. لم يكن لائقا من البدء أن يجري التصرف ببلد كبير صانع للحضارة كمصر كحيوانات مودعة في أقفاص السيرك أو كنزلاء سجن كبير يجري التحكم فيهم عبر عقد صفقات منفردة تعقد مع كل طرف علي حدة لتحييده عن سائر الأطراف وهو ما يسهل اكتشافه دوما من خلال الطريقة التي يتصرف بها هذا أو ذاك. الأمر الثاني أن المسألة الإخوانية أو الجماعاتية ليست مجرد مسألة حزبية يجري حلها عبر الحيل والخداع شراء للوقت فهي قضية متعددة الجوانب منها الثقافي والتاريخي والاجتماعي وهناك أيضا البعد الخارجي الذي لعب دورا رئيسا في تأسيس هذه الجماعات وأمدها بعناصر البقاء ومن ثم فالحديث عن خطة للقضاء علي الجماعات تستغرق فترة زمنية محددة شكل نوعا من الغرور القاتل الذي أوصلنا إلي ما نحن فيه الآن. لم تظهر هذه الجماعات كحدث خارج السياق الثقافي والتاريخي الذي مرت به البلاد بل ظهرت كنتيجة لتفريغ المجتمع من الثقافة والسياسة بل ورغبة القوي الكبري في تفريغ مصر أولا بأول من العناصر المفكرة ردا منها علي بدء مشروع النهضة الحقيقي الذي وضع أسسه محمد علي ورجال مصر الحقيقيون ليجري إشغالها بمشروع إعادة إنتاج أمة لا إله إلا الله أو مشروع للنهضة زائف ومزور تلوح به الآن الجماعة الوحيدة وملهمها الشاطر لتبقي مصر كرة يتقاذفها الشطار فيما بينهم ليبقي بال إسرائيل وواشنطن من إمكانية استعادة مصر لدورها الحضاري والسياسي المركزي الذي فقدته يوم انهارت الدولة الفاطمية. لم يكن مدير المخابرات السابق هو صاحب براءة اختراع نظرية جوال الفئران والذي برع في استخدامه علي المستوي التكتيكي فهو ومن دون أدني شك اختراع بريطاني اشتراه الأمريكان لاحقا وأجادوا استخدامه علي المستوي الاستراتيجي لتبقي المجموعات الكبري في عالمنا العربي والإسلامي في حالة اشتباك بيني مستمر ضمانا لعدم توحدهم واتفاقهم علي تحقيق أي هدف قومي أو ديني مشترك حتي ولو كان في حده الأدني. الخطيئة الخطيئة التي ارتكبها نظام المخلوع وأصر عليها ونفذها جماعة الموظفين محدودي التصور والخيال الذين لم يروا سوي أنفسهم في مرآة الغرور، أنهم قرروا إدارة مصر بنفس الطريقة التي يجري بها إدارة سيرك يحوي في أقفاصه مجموعة من الحيوانات التي يجري تجويعها ليسهل التحكم فيها بإعطائها لقمة أو حرمانها من لقمة بدلا من التعامل مع مصر بعظمتها وتنوعها الفكري كمجتمع مفتوح قيمته الكبري في تنوعه وثرائه الفكري وهذا وحده كان كفيلا بتحديد الأوزان والأحجام بعيدا عن بهلوانيات الساحر العظيم!! الآن عدنا إلي نقطة البدء فالصراع بين القوي الفكرية والسياسية المختلفة هو صراع أحجام وأدوار أكثر من كونه صراعا علي الوجود. هاهي الجماعات الإسلامية تتصارع الآن فيما بينها علي كعكة الرئاسة وهو صراع يحمل خطورة بالغة ليس فقط علي الإخوة الأعداء الذي يعتقد كل منهم أنه وحده صاحب الحق الحصري في حمل راية الإسلام وتطبيق مبادئه بل علي وجود الأمة والدولة والوطن الذين ضاق أبناؤها ذرعا بهذا الصراع المحموم علي تملك البلاد والعباد. الكارثة الأسوأ هو أن ذلك السيد المبجل يعتقد وربما كان هناك من يشاركه ذات الاعتقاد أن بوسعه إعادة عقارب الساعة إلي الوراء وإعادة ترتيب أوضاع السيرك عبر التلويح للقردة المتمردة والثيران الهائجة بالصندوق الأسود وما يحويه من أسرار وفضائح وهي سياسة محكومة حتما بالفشل الذريع. علينا إذًا أن نعترف بالورطة الكبري التي وصلنا إليها عبر تراكم هائل من الأخطاء والمصائب خلال حقب مختلفة من التاريخ ثم جاءت خطايا النظام السابق لترسخها وتؤكد عليها كما أن علينا أن نعترف ونقر بأن المعالجات التكتيكية لن تجدي نفعا علي المدي المتوسط والبعيد لأننا في حاجة ملحة لفترة من التهدئة والتقاط الأنفاس يتخلي فيها أصحاب الرءوس الحامية من الموالين لنظام المخلوع عن حلمهم بإعادة أمجادهم الضائعة فضلا عن طابور المطالبين بمنصب أمير المؤمنين الذين يتعين عليهم جميعا أن يثوبوا لرشدهم ويتوجهوا نحو هدف رئيس هو إنقاذ مصر من التشرذم والضياع. المهمة الأصيلة لرجال الدولة إن كنا حقا نريد أن نعيد للدولة احترامها ومكانتها ودورها الحضاري وهي المهمة التي تخلي عنها القوم في السابق هو حشد أهل الرأي والفكر ودعاة الإصلاح والاستئناس برأيهم والعمل معهم يدا بيد وبذر بذور الإصلاح وسد نقاط الخلل وإصلاح الفساد وليس تكديس الصناديق السوداء علها تنفع في يوم أشد سوادا وهيهات هيهات.