لاترافياتا كانت من أوائل الأوبرات العالمية التي حاولت تقديمها فرقة الأوبرا المصرية عند انشائها وكانت سبيلا لإظهار مواهب مغنيات مصريات كبار كرتيبة الحفني التي تألقت في هذا الدور ونبوليت مقار ونبيلة العريان ثم فجأة ولأسباب جمة اختفت هذه الأوبرا رغم شعبيتها الجارفة من رمبرتوار الأوبرا رغم الإعلان عنها أكثر من مرة ثم إلغاؤها في آخر لحظة. وهاهي لاترافياتا الآن.. تعود إلينا عن طريق عروض المتروبوليتان الأمريكية في إعداد معاصر ومن بطولة مغنية خارقة للعادة وإخراج مبتكر أثار الكثير من ردود الفعل المتباينة. «لاترافياتا» كما نعلم هي الإعداد الموسيقي لقصة «غادة الكاميليا» التي كتبها الكسندر دوماس الابن والتي تعتبر من أكثر القصص الميلودرامية شهرة في نهايات القرن التاسع عشر .. وتروي بشكل إيجابي وشديد التعاطف قصة غانية شابة تقع في الحب وتضحي بحياتها وحبها من أجل مستقبل حبيبها. بنات الهوي هذه القصة التي كسرت تابوهات اجتماعية ورجعية سائدة ودافعت بشكل عاطفي عن بنات «الهوي» مقدمة إياهن كنماذج إنسانية أو كضحايا أكثر منهن فاسقات وفاجرات وبائعات لذة. وجدت صدي .. لا في فرنسا وحدها بل في أرجاء العالم كله، بما في ذلك العالم العربي وأصبحت «غادة الكاميليا» أيقونة عاطفية يستشهد بها ويذكرون سيرتها وضحيتها بحب وإجلال. ووصل الأمر بهذه الغادة الحسناء إلي مصر .. حيث الهبت الخشبات المصرية.. في بدء النهضة المسرحية المصرية وأعطت وجهها النبيل الحزين لكثير من ممثلات مصر الكبار بدءاً من روزاليوسف ومرورا بفاطمة رشدي وزينب صدقي وعزيزة أمير وسواهن، واخترق هذا الإعجاب الخشبة ليصل إلي الشاشة حيث قامت كل من ليلي مراد ومريم فخر الدين ونادية لطفي ونجلاء فتحي بأداء هذا الدور بأسلوبها وطريقتها. أما الأوبرا الإيطالية فلم تكتف بتقديمها علي الخشبة والشاشة، بل انها نقلتها هذه المرة إلي ميدان الأوبرا، حيث قام الموسيقار الكبير «فردي» باقتباسها وتغيير اسمها ليقدمها تحت عنوان «لاترافياتا» ويطلق علي بطلته اسم «فيوليتا» عوضا عن «مرجريت جوتييه» الذي اشتهرت به دوما. القصة إذن في هذه الأوبرا معروفة في كل خيوطها منذ البدء وحتي النهاية. غانية شهيرة يتقاتل حولها العشاق والمعجبون كما تتقاتل الفراشات حول النور تقع في حب شاب نبيل في مقتبل العمر ينتظره مستقبل كبير في بلده وتهييء له اسرته زواجا محترما يضمن له هذا المستقبل. ولكن الشاب الذي يقع في حب الغانية ينسي كل شيء وينجرف في علاقة معها تستجيب لها «فيوليتا» بكل قواها وتهجر من أجله عشاقها الأثرياء جميعا لتذهب وتعيش معه حياة بسيطة متواضعة في إحدي الضواحي الريفية ناسية مجدها وثراءها ومعجبيها وحياتها الصاخبة. الحب أولا لكن والد الفتي الذي يخشي علي مستقبل ابنه يأتي إليها مهددا إياها وطالبا منها هجره، ولكنها ترفض كل الإغراءات المادية أو التهديدات التي يوجهها إليها وتصر علي أن الحب بينها وبين الشاب الذي اختارته أقوي من كل الحواجز.. وعندما يشعر الأب يمدي عاطفة «فيوليتا» واتساعها يلجأ إلي حيلة أخري وهي مطالبتها بإنقاذ مستقبل حبيبها الذي تهدده هذه العلاقة الآثمة وهنا تستجيب العاشقة فورا.. وتقبل أن تهجر حبها الكبير مدعية أنها سئمت حياة الفقر والبساطة واشتاقت إلي حياة الليل والبذخ والفجور. وتعود إلي عشيقها الثري القديم ويلحق بها العاشق الجريح ليهينها ويهدر كرامتها أمام الجميع في حفل عام.. وهنا تبدأ خطوط النهاية تلوح .. ينصرف العشاق عنها بعد اصابتها بمرض عضال معد وتموت وحيدة فقيرة ويشعر الأب بالندم ولكن بعد فوات الأوان يخبر ابنه بالحقيقة فيسارع إلي سرير معشوقته ليجدها تفارق الحياة بين ذراعيه. ميلودراما عاطفية أبكت الملايين وعزفت علي أوتار العواطف وجسدت نبل التضحية ونري «بنت الهوي» قادرة أحيانا علي أن تكون أشد نبلا من بنات العائلات الكريمة.. وأن الحب هو المطهر الأكبر للخطايا، وهو الذي يمنح صك القداسة للعشاق المعذبين. هذه هي بخطوطها العريضة قصة «غادة الكاميليا» التي تحولت في الأوبرا إلي «لاترافياتا» ألفها فيردي وقدمها لنا بشكل معاصر مسرح المتروبوليتان الأمريكي ونقلتها لنا بنجاح ملحوظ دار الأوبرا المصرية فماذا اذن عن هذا العرض الذي أثار- في نيويورك في إنتاجه الجديد المعاصر هذا -ضجة وانقساما لم يعهده مسرح المتروبوليتان من قبل. وهل استطاعت «لاترافياتا» بشكلها المعاصر الجديد أن تقتحم قلوبنا ومشاعرنا وتهزنا إلي الأعماق كما فعلت سابقتها في شكلهن الكلاسيكي التقليدي المعتاد. المسرح فارغ تماما لا تفصله عن الجمهور أية ستارة.. ساحة فضائية واسعة تطل عليها شرفة عالية تحيط بالمسرح كله بينما تقف ساعة عملاقة تشير إلي الزمن علي يمين المنصة يقف أمامها رجل عجوز مهيب لا ينطق بكلمة واحدة خلال العرض كله.. ويمثل قوة سماوية خاصة تشهد علي الأحداث وتنظر إليها من بعد. الثوب الأحمر الكورس الكبير الذي يحتل الفصل الأول وتدور أحداثه في قصر فيوليتا جعله المخرج كورسا واحدا من رجال ونساء يرتدون ثياب السهرة السوداء ولا يمكنك أن تفرق بين المرأة والرجل فهم الذين يحتفلون بآلهتهم الصغيرة فيوليتا بثوبها الأحمر التي ترقص بينهم وتنشد طالبة التمتع بالحياة والخمر والنشوة، وفي هذا الحفل تتقابل فيوليتا مع حبيبها الفريدو ليختفي الجميع ويبقيان وحدهما ينشدان أغنية الحب الذي عثرا عليه ولا يريدان الابتعاد عن سحره مهما كانت الفوارق والعادات والتقاليد. وتتحول الأرض الفراغ في الفصل الثاني إلي مقاعد ملونة ويحتل الورد العملاق السقف الأسود الذي كان يغطي الخشبة في الفصل الأول، لنشهد أبدع ما وصل إليه خيال المخرج في تصوير علاقة الحب بين الفريدو وفيوليتا في مشاهد عابقة بالحسية الحلوة وسذاجة العشق وعفويته قبل وصول الأب.. بغطرسته وكبريائه .. ليطلب من فيوليتا التضحية بحبها كما هو معروف في القصة في هذا الفصل بالذات تجلت عبقرية الإخراج.. في تصوير الحركة والانفعالات ووصلت الموسيقي إلي أعلي مراحلها التعبيرية كما تألقت السوبرانو نانالي ديساي تمثيلا وغناء وحضورا مدهشا سواء في طبقات صوتها الإعجازية، أو في أدائها الداخلي المثير للتعاطف هذا الفصل نموذج حقيقي لكيف يمكن أن يغطي أبعاداً معاصرة لعمل كلاسيكي شامخ دون أن نضربه أو ننقص من قيمته بل علي العكس نضيف إليه ابعادا ما كان يمكن أن نتخيلها ونشعر أنه يعبر عن حياتنا المعاصرة وعما نحسه في قلوبنا ومشاعرنا علي مر الزمن.. وأن الأمر لم يعد يتعلق بغادة الكاميليا وقرنها التاسع عشر.. وإنما بأي فتاة يجرها قدرها إلي الانحراف ويعيدها الحب إلي صوابها. الابتذال أحيانا وبشطط الخيال بالمخرج إلي أقصي درجاته في الفصل الثالث .. فصل القمار وإهانة فيوليتا من قبل حبيبها الذي أساء فهمها. فيعود الكورس الأسود ليلعب لعبته مرة أخري ولكن المعيار أفلت هذه المرة فمن بين أصابع المخرج الذي استبدل الرقصات التي كتب موسيقاها فيردي بمشاهد كرنفالية وصلت أحيانا إلي درجة من الابتذال .. لا تليق بالعرض وتكاد تشكل نقطة سوداء فيه.. لولا الأداء الصوتي والجسدي لنانالي ديساي التي حملت عبء هذا الفصل كله علي كتفيها وانقذته من السقوط .. الذي كان يهدده. وينتهي الفصل الرابع .. بأن يفصح المخرج عن هوية الرجل العجوز الذي زرعه منذ البداية.. والذي كان شاهدا صامتا علي الأحداث أن فيوليتا تتوجه إليه في أحزانها ومأساتها لتبثه لواعجها ويأسها واحباطها ونحس فورا أن هذا الرجل يمثل قوة إلهية شاء المخرج أن يجسدها وشاء لها أن تقف إلي جانب الغانية ذات القلب الكبير ويواجه بها المجتمع الذي يضع الأقنعة علي وجهه ليخفي معالم روحه. جرأة تعبيرية تصل إلي أقصي حدودها التجريبية في أوبرا كلاسيكية تعتبر من المقدسات الموسيقية لدي الكثيرين. لاترافياتا كما قدمها مسرح المتروبوليتان عرض مثير للدهشة وتساؤلات لا تنتهي لقد ضمن المخرج مستواه الفني والموسيقي بإعطاء دور البطولة لمغنية وممثلة استثنائية ولبارثيون مدهش هو ديمتري شفوروستوفسكي الذي لعب بإتقان وإعجاز دور الأب القاسي الذي يترنح صوته بين الشدة والعنف والحب والرحمة في تزاوج لا ينسي وبعد أن ضمن المخرج هذا الأداء الغنائي العالي المستوي .. انصرف ليقدم رؤيته المسرحية علي نص كلاسيكي يعرفه الجميع.. ويحفظونه عن ظهر قلب ولكنه أراد أن يفاجيء الجميع برؤية استثنائية خاصة وتفسير شخصي له. لقد تحولت لاترافياتا إلي عرض تجريبي مذهل تقدمه واحدة من أشهر فرق الأوبرا في العالم لتجعلك تري من خلال موسيقي استثنائية لا منافس لها.. تجربة مسرحية طموحة .. تحيل نصا معروفا إلي نسيج حريري هفهاف ينقلك وكأنك علي بساط الريح .. إلي سماوات بعيدة وآفاق لم تكن تحلم بها. روح العصر لاترافياتا المتروبوليتان تجربة موسيقية ومسرحية فذة يمكن أن تكون فاتحة لأعمال كثيرة أخري تتوجه إلي الشوامخ الكلاسيكية لتقدمها بروح العصر ورؤيته وحساسيته وبذلك تسير عجلة عمق الفن الجميل إلي الأمام عوضا عن أن تتوقف أو أن تدير وجهها إلي الماضي. تجربة فريدة هل يمكن لمسرحنا الذي يبحث عن نفسه أن يعي ابعادها وأن يسير علي دربها. سؤال لن يجيب عنه إلا الرجل العجوز المهيب الذي زرعه المخرج في هذا المسرح الفارغ الممتليء نورا الذي يعرض أحداث لاترافياتا.