تميزت الأعمال الدرامية الفرنسية موسيقية كانت أو مسرحية في نهايات القرن التاسع عشر بروح ثورية وحرية أخلاقية متحررة ميزتها عن كثير من الحركات الأوروبية الثقافية الأخري .. وتجلي ذلك خصيصا في روايات ومسرحيات ومؤلفات موسيقية تركزت حول شخصيات نسائية كانت تعتبر قبل ذلك من الشخصيات «التابو» التي لا تليق بالمستوي المحترم الذي تحرص عليه تلك الأعمال الفنية آنذاك. وهكذا ظهرت في الأدب مثلا شخصيات مثل «نانا» أميل زولا و«سافو» الفرنسي دوريه وسواها، ولمعت في المسرح شخصيات من أمثال «غادة الكاميليا» ومثيلاتها، أما في الأوبرا فتجلت هذه الشخصيات النسائية المتحررة أخلاقيا في أوبرات نالت شهرة عالمية وحققت نجاحا جماهيريا كاسحا منذ ظهورها لأول مرة علي خشبات المسارح. ك«كارمن» التي رسمها «ميريمييه» أدبا وخلدها «بيزيه» موسيقيا والتي أصبحت عنوانا للمرأة المتحررة أخلاقيا وجسديا والتي تواجه المجتمع بحبها للحياة وتمسكها بحريتها، وإيمانها بقوة جسدها وتأثيره، وظهرت «لاترافياتا» المأخوذة عن غادة الكاميليا والتي تصور غانية تملك قلبا من ذهب .. تضحي بحياتها لإنقاذ مستقبل الشاب الذي أحبته. وأخيرا تألقت «مانون ليسكو» عاشقة الحياة الصغيرة، التي تعيش لذة العيش والجسد وتؤمن بأن الحياة فانية ولا تستحق أن نكرس لها قيمنا وحريتنا.. وإن لذة العيش الحقة في النهل من الملذات التي تقدمها هذه الحياة بكل أنواعها، وحتي «الحب» نفسه ليس إلا وسيلة أخري من وسائل متعة الحياة والغوص في أمواجها العميقة. غادة الكاميليا وبالطبع .. فإن هذه الحرية التي انطلقت هادرة في نهاية القرن التاسع عشر من خلال هذه الشخصيات النسائية المدهشة كان لها أن تدفع الثمن غاليا من حياتها.. ومن مكانتها ومن دورها الاجتماعي . «كارمن» تقتل علي يد حبيبها الغيور.. وغادة الكاميليا تموت فقيرة معدمة دون أن يتحقق أملها الأخير في رؤية الرجل الذي أحبته وضحت بكل شيء من أجله. أما «مانون» فتقع في يد الشرطة وتنفي عن بلدها.. ولكنها تموت تعيسة فقيرة بين يدي محبوبها الذي حولت حياته وهدمت براءته وكادت تهدم مستقبله. «مانون ليسكو» التي أحالها الموسيقار الفرنسي «مانسية» إلي أوبرا من خمسة فصول قدمتها لنا في حفل هوائي مباشر من مسرح المتروبوليتان الأمريكي أوبرا القاهرة فأضافت لنا متعة كبري لم نكن نتوقعها أو نحلم بها. أداء خارق للعادة للمغنية الشابة «آنا نتريبكو» والتي جمعت بشكل نادر بين قدرة تمثيلية فذة وأداء غنائي خارق للعادة وجمال أنثوي مثير وهي صفات نادرة قل أن تجتمع مرة واحدة لدي مغنية أوبرا . أما الفارس «دي جريو» قام به المغني الشاب «بيتر بيكزالا» الذي يجمع هو أيضا الصفات الثلاث التي ميزت السوبرانو الأولي بالإضافة إلي براءة مشعة في وجهه ونور خاص ينطلق من عينيه الواسعتين اللامعتين. قصة «مانون ليسكو» الأصلية كتبها القس «بريفو» وأعطاها هذا البعد الديني الروحي والذي يتصف آخر الأمر بالتسامح والمغفرة والقدرة علي العفو والصفح والمسامحة. ورغم ابتذال حياة «مانون» وشبقها للحياة لا يمكننا في أي لحظة أن المسرحية أو المغناة أو نقف ضدها، إنها تثير في قلوبنا التعاطف والمسامحة لأنها تهدهد.. هذه الرغبة العميقة المتأججة داخلنا في أن نتمتع بالحياة ونشرب من «خمرها المعتق» حتي الثمالة. إننا نري «مانون» في مطلع الأوبرا وهي شابة يافعة في السادسة عشرة من عمرها تأتي إلي باريس لكي تنضم إلي سلك الراهبات ولكن حبها للحياة والمغامرة يدفعاها إلي أن تستمع بسرعة إلي إغراء الشاب «دي جريو» الذي يقابلها ويقع في حبها من أول نظرة. فتهرب معه لتحيا في شقة صغيرة في باريس بعيدة عن العالم تنهل من الحب الجسدي والمتعة ما شاء لها الهوي، ولكنها سرعان ما تخضع لإغراء أشد قوة من رجل أكثر ثراء فتضحي بحبيبها الصغير وتنطلق غير عابئة بعواطف صغيرة قد تقيد قلبها وجسدها، متجهة نحو باريس كلها لتملكها بما لديها من قوة أنثوية وجمال نادر .. وهكذا تصبح بين يوم وليلة غانية باريس الأولي التي يتساقط حولها المعجبون كالفراشات أمام النار المتوهجة. الطريق إلي المنفي أما «دي جريو» الذي تهزه هذه الصدمة وهذا النكران فإنه يتجه للدير ويقرر أن يصبح راهبا وحين تعلم «مانون» التي اشتهرت وأصبحت غانية ونجمة ساطعة في سماء بارس الليلية تقرر مرة أخري إخراجه من عزلته وجذبه إلي عالمها المسحور وتذهب إليه في كنيسة مذكرة إياه بأيام حبهما الأولي وتعيد إليه عبق الجسد الذي هجره، وسرعان ما يقع «دي جريو» في حبائل «مانون» مرة أخري .. ويهجر الدير والكنيسة ويتبعها ليحيا معها حياتها اللاهية.. حياة الليل والخمر والقمار والذي سيؤدي به وبها إلي تدخل البوليس والقبض عليها.. أما هو فينجو من العقاب بفضل نفوذ والده الكونت. وفي طريقها إلي المنفي .. يحاول «دي جريو» مرة ثالثة أن يستعيد «مانون» وأن يقرر الهرب معها إلي منفاها .. ولكن الحياة تكون قد تغلبت علي إرادة «مانون» في الحرية والانطلاق .. لذلك تموت بين ذراعي حبيبها الشاب دون أن تلفظ كلمة ندم علي المصير الذي اختارته بنفسها ودفعت حياتها ثمنا له. شخصية نسائية مدهشة رسمها قلم القس «بريفو» وصاغها ألحانا عاطفية لا تنسي «مانسية» تحقق بذلك انتصارا كبيرا للأوبرا الفرنسية في مواجهة سيطرة الأوبرا الألمانية والإيطالية. الإخراج الأوبرالي الذي قام به «لوران بيلي» يصل أحيانا إلي درجة الإعجاز إذ استطاع أن يربط بنجاح بين الحس الجمالي الخارق للديكور .. واستعمل السلالم في شتي مستوياتها للتعبير عن الصراعات الدرامية بأسلوب مسرحي ساحر. كما نجح في رسم أجواء اللذة الجسدية في الشقة الصغيرة المعلقة علي الليل والمدنية حتي يحيا العاشقان أجمل لحظات حياتهما. ولكن قوة الإخراج الكبري جاءت في تحطيم جميع التابوهات الدينية والاجتماعية في مشهد الإغراء الذي تدور أحداثه في الكنيسة وأمام المذبح حيث يتبادل العاشقان القبلات المحمومة علي فراش تضيئه شموع الكنائس. أسود وأبيض المخرج المخضرم فهم كل أبعاد «الأوبرا» النفسية والموسيقية وعرف كيف يعبر عنها برؤية فنية مبتكرة استعمل فيها كل ما يملكه المسرح من أدوات تأثيرية.. سواء الديكور أو في الثياب أو في الاكسسوار أو في حركة الممثلين الرئيسيين أو حركة المجاميع وكتلها السوداء والبيضاء التي خلقت تأثيرا بصريا لا يقاوم. كل شيء في العرض الجديد ل«مانون» كما قدمته فرقة المتروبوليتان يثير للإبهار والدهشة والإعجاب العميق. ولسنا دون شك في صدد الحديث عن قدرة الأصوات النادرة التي تجمعنا بها هذه الأوبرا خصوصا في الدورين الرئيسيين، فهذا أصبح من البديهيات عروض هذه الأوبرا الأمريكية التي تملك من الإمكانيات مالا تملكه أي أوبرا أخري في العالم والتي تستطيع أن تجمع في عرض واحد مجموعة من الأصوات قادمة من كل أطراف الدنيا لتجتمع معا لتقديم رائعة من روائع الموسيقي في العالم. عرض «مانون» الأوبرالي الذي شهدته أوبرا القاهرة حدث استثنائي حقيقي يعيدنا إلي قمة أمجاد المسرح الغنائي ويشعرنا كم أن الدرس مازال طويلا أمامنا كي نتعلم ونفهم ونعبر. وأن كل شيء في هذه الدنيا يبدأ بخطوة صغيرة كما تقول الأمثال الصينية. فهل نخطو في مصر خطوة إلي الأمام أم أننا نتقدم إلي الخلف .. سؤال حائر وسنجيب عنه حتما الأيام القادمة.