لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي / إذا لم يكن ديني إلي دينه داني / لقد صار قلبي قابلا كل صورة ٍ / فمرعي لغزلان ودير لرهبان / وبيت لأوثان وكعبة طائف ٍ / وألواح توراة ومصحف قرآن ِ / أدين بدين الحب أنّي توجهت ْ / ركائبه فالحب ديني وإيماني . هذه الأبيات الرائقة للصوفي ّ الأكبر الشيخ محيي الدين بن عربي، ما كانت لتري النور لولا أن صاحبها شاء أن يضع نفسه موضع خاتمة الولاية المحمدية الخاصة - الإسلام - وغايتها نشر العدل والمساواة والمحبة في ربوع هذا العالم الأرضي البائس . فما سمات الولاية المحمدية التي تاق إليها ابن عربي ؟ إنها بلوغ المرء مرتبة الإنسان الكامل، وهي مرتبة لا تتحقق لكائن قبل أن ينزع عن عبوديته لله كل شائبة توهم بربوبيته هو ككائن بشري، ومن هنا تأتي صفات الإنسان الكامل، فهو لا يجنح مطلقا نحو الكبر، ولا يطلب لجسمه الخلود في الدنيا، ولا يتعلق بذاته إذ يعلم أنه غير موجود لذاته بل للخالق الأعظم، فلا عجب ألا يستكثر أن يسلم روحه لبارئها يفعل بها ما يشاء، متيقنا من أنه لا أمل له في الخلاص وبلوغ السعادة إلا بما يشاء الله . دعنا إذن نتأمل أنفسنا كأفراد أولا ثم نعرج علي مؤسساتنا الدينية ثانيا ً لنكشف مدي قربنا أو بعدنا من هذا النموذج. لكن قبل أن نفعل علينا أن نعترف بأن ابن عربي ينبغي أن يعد رائد الإصلاح الديني حيث سبق بزمنه وبموضوعه قطبي البروتستانتية "مارتن لوثر" و"كالفن " فبينما استهدف الأخرين إصلاحا دينيا ً لغرض دنيوي بحت فإن ابن عربي ابتغي الإصلاح للدنيا والآخرة معا ً. ولعل أبياته التي بدأنا بها هذا المقال توضح كيف تم إرساء مبدأ القبول غير المشروط - داخل الثقافة الإسلامية - لكل الأديان سماوية كانت أم دنيوية، وذلك قبل أن يتنادي به الميثاق العالمي لحقوق الإنسان وسائر المواثيق الدولية الحديثة، وما من شك في أن إصلاحا دينيا مصريا أو عربيا معاصرا لا يمكن أن يعول عليه ما لم يرتكز علي هذا المبدأ . أضف إلي ذلك ما قام به ابن عربي في مقدمة أبياته من نقد ذاتي لسبق نكرانه الصاحب المغاير له في الديانة والمعتقد . مستبدلا بذلك النكران اعترافا يؤسس لقيمة بشرية ودينية لا غناء عنها لكل إنسان ينشد الإصلاح. هكذا راح كاتب هذه السطور يعيد النظر فيما استقر عليه من أن تخلفنا عن ركب الحداثة ناجم فقط عن أوضاعنا الجيبوليتيكية الجامدة المولّدة لثقافةٍ تقبل بالإذعان وترتضيه مقابل أن يظفر الناس بالأمن والاستقرار. كانت كلمة السر في نقدنا الذاتي لهذه الفكرة هي " ثورة يناير " بما برهنت عليه من أن ثقافة الإذعان ليست نسيجا بيولوجيا لا ينفصم عن الأوضاع الجيبوليتيكية، وكذلك الحال فيما يتعلق بمردود هذه الثورة علي وعي الجماهير التي بدا وكأنها ترفض مفهوم الحداثة ( بدليل انحيازها للقوي التقليدية في الانتخابات ) وبذلك صار ضروريا نقل مفهوم الحداثة نفسه من المطلق المجرد إلي النسبي المشتبك بأحوال الناس ودرجة تقبلهم للمفهوم ذاته . براءة الدين ومتطلبات الحداثة لقد بدا لنا في غمار ما يمر به الوطن من أحداث جسام، وتغيرات ثورية وضد/ ثورية متلاحقة أن عبور هذه المرحلة ممكن، شريطة اتباع منهج َجدلي (متجاوز للمادية التاريخية دون أن يلغيها) يستبعد من ثقافة الحداثة "الأوروبية" عناصرها السلبية : اللهاث المحموم وراء بهرجة المجتمع الاستهلاكي، الاستسلام لتوجهات الرأسمالية المتوحشة التي لا تفتأ تشعل الحروب في كل مكان وتدمر اقتصاديات الشعوب بنهب مواردها الطبيعية وتحجيم نموها فلا تغدو قادرة علي منافسة المتقدمين. وثالثا ً: الاكتفاء بالعيش في مستواه المادي البحت ونبذ الأديان باعتبارها نوعا من مخلفات العصور المظلمة. وإذ يستدعي هذا المنهج من معطيات الحداثة الأوروبية عناصرها الموجبة : جدية الإنتاج وتعظيم العقلانية وترسيخ الديمقراطية، فإنه لابد يمحو القناعات اللاهوتية الزائفة التي تعلل الجياع بإناء الرمل والحصي ليبقوا صابرين حتي يأتي المخلص الميتافيزيقي (يسوع أو الإمام المستور أو المهدي المنتظر) ومقابل هذا المحو فإنه يستلهم ثقافة النبوة التي تدعوهم لكي يتحركوا هم بقواهم الذاتية ليخلصوا أنفسهم بأنفسهم. إن هذا المنهج الجدلي الجامع بين التحرر المادي والتشوف الروحي إنما يفتح الأفق أمام التزاوج بين الحداثة - في بعدها التاريخي والعلمي والإنساني - وبين براءة الدين المنبثقة من أصالة النبوة، تلك الأصالة التي تشيع الأمل في قلوب البشر، وتحض علي إحقاق الحقوق وتحرض علي مقاومة الأباطيل، وتسعي لإنزال الهزيمة بالطواغيت وأتباعهم الفاسدين الفجرة. وبهذا المنهج لا يكون للحداثي حق انتقاد الأشخاص الذين يرون الدين ملبياً لاحتياجاتهم الروحية ومطمئناً لهواجسهم الوجودية. حقيقة الإصلاح الديني لقد دارت مناقشات كثيرة بين مؤسسة الأزهر الشريف وبين رموز من المثقفين الوطنيين، فكان مما قاله الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر إن الإسلام لم يعرف في تاريخه ولا تشريعاته أو حضارته ما يعرف في الثقافات الأخري ب «الدولة الدينية الكهنوتية» التي تتسلط علي الناس وتعانيها البشرية، وعليه فعلي جميع القوي الوطنية أن تتوحد لدعم الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة التي تعتمد علي دستور ترتضيه الأمة. كما أكد فضيلة الإمام أهمية اعتماد النظام الديمقراطي القائم علي الانتخاب الحر المباشر، موضحا أنه الصيغة العصرية لتحقيق مبادئ الشوري الإسلامية بما يضمنه من تعددية وتداول سلمي للسلطة وتحديد للاختصاصات ومراقبة للأداء ومحاسبة للمسئولين أمام ممثلي الشعب، وإلزام هؤلاء بمنظومة الحريات الأساسية في الفكر والرأي مع الاحترام الكامل لحقوق الإنسان والمرأة والطفل، وتأكيد مبدأ التعددية واحترام جميع العقائد الدينية. كما دعا الشعب المصري بكل فئاته لاحترام آداب الاختلاف وأخلاقيات الحوار واجتناب التكفير والتخوين وعدم استغلال الدين لبث الفرقة والتنابذ والعداء بين المواطنين، واعتبار التحريض علي التمييز الديني والنزعات الطائفية والعنصرية جريمة في حق الوطن. كما أشار إلي أهمية تدعيم علاقات مصر بأشقائها العرب ومحيطها الإسلامي ودائرتها الأفريقية والعالمية، وضرورة مناصرة الحق الفلسطيني جنباً إلي جنب الحفاظ علي استقلال الإرادة المصرية، وبعث دورها القيادي التاريخي علي أساس التعاون تحقيقا للخير المشترك لمصلحة الشعوب وتقدم البشرية، والحفاظ علي البيئة وإرساء السلام العادل بين الأمم. تلك هي المبادئ التي تضمنتها وثيقة "الأزهر والمثقفين" فكأنها المعادل "المجتمعي" لرؤية ابن عربي حيث تدعو بصريح العبارة لتأسيس الدولة المدنية الدستورية والالتزام بالمواثيق الدولية، كما تطالب باستقلال مؤسسة الأزهر، والعمل علي تجديد مناهج التعليم الأزهري، ليسترد خريجوه دورهم الفكري، وتأثيرهم العالمي في مختلف الأنحاء، واعتبار الأزهر الجهة المختصة التي يرجع إليها في شئون الإسلام وعلومه وتراثه واجتهاداته الفقهية والفكرية الحديثة، من دون مصادرة حق الجميع في إبداء الرأي متي تحققت فيه الشروط العلمية اللازمة. كل هذا منعش للآمال حقاً، لكن يبقي أن يلتفت الأزهر إلي وظيفة النبوة في مستواها الاجتماعي ( فذلك هو مناط الإصلاح الديني الحقيقي ) تلك الوظيفة التي اضطلع بها الرسول الكريم وخليفتاه والإمام ابن أبي طالب ألا وهي محاربة الفقر، ومن ثم ينتظر من "أزهرنا الشريف" أن يتبني أهم أهداف ثورة يناير: العدالة الاجتماعية، وذلك بالوقوف بجانب جماهير الشعب لتحقيق مطالبها المشروعة . وهكذا يتضح أن الإصلاح الديني مشروع وطني قوامه نشر ثقافة التسامح والمحبة بين الأفراد المختلفين ديانات وعقائد من ناحية، ومن ناحية أخري قيام المؤسسات الدينية بدورها الفاعل في الحياة السياسية دون تردد.