منذ سنوات والشاعر المصري شريف الشافعي يعمل علي إنجاز مشروعه الشعري الإلكتروني "الأعمال الكاملة لإنسان آلي"، بأجزائه الشعرية "البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية" (ثلاث طبعات عربية ما بين 2008-2010)، والثاني "غازات ضاحكة" (دار الغاوون، بيروت، 2012)، ومازال هذا الشاعر يستأنف تدريباته الشعرية علي منح تجربته أكثر من محتوي شعري ومعرفي وبصري يتجاوز القصيدة النثرية كأعلي مراحل الكتابة الحديثة. وبكلمة أدق يتعدي قوانين وبنود قصيدة النثر، عبر هدم الموروث الانفعالي والغنائي للنص، إلي إتاحة فسحات جديدة للتعبير الذاتي، والانتقال من القصيدة السمعية إلي القصيدة البصرية أو المرئية. في الجزء الثاني من الأعمال الكاملة لإنسان آلي "غازات ضاحكة"، نحن أمام رقعة إبداعية غريبة ومدهشة ومثيرة للضحك، كائنات مصنوعة من أزرار الكمبيوتر تتحول إلي كائنات لها روح ودم، وتصبح الإشارات والأضواء والأصوات كلمات ودلالات وإيحاءات لا تتوقف عن إعلان وجودها وتأثيرها في بنية النص، إذ تنقلب اللغة هنا إلي كلام عادي، والبناء إلي شاشة كبيرة تتحرّك فيها تلك الكائنات وتلعب بها. إنها لعبة الحياة المتشابكة، حيث خليط من الهندسة والأرقام ولوائح كهربائية لا معني لها سوي أن تكون دارات شعرية متناوبة، وتؤسّس ثقافة أخري لم يلمسها القارئ الجديد، ولم يذقها الناقد الحائر الذي لا يري إلا صورة غزو شعري من كوكب آخر، ومن فضاء إبداعي آخر: "يكتبُ علي الكيبورد بقوّةٍ، فتغوص الحروفُ الموجوعةُ في أنينِ المفاتيحِ، وتنطمسُ/ يكتبُ علي الكيبورد بقوَّةٍ، فتظهر علي الشاشةِ بصماتُ أصابعِهِ" ما يسجل ل "الأعمال الكاملة لإنسان آلي" بجزأيه، ذلك الانتقال السلس بين الكلمات اليومية المتداولة، وتلك المصطلحات الإلكترونية البديلة لحياتنا، التي يبدو أنها أصبحت عبارة عن غرفة كونية محاطة بأسلاك رقيقة وألواح إلكترونية تنبض وتعيش علي إشارات ورقميات صناعية خامدة. وفي المقابل وراء تلك التلة الرقمية يقبع رجل من روح ودم، يراقب هذه الحياة ويتبعها، ويحاول تغيير مسارها وفتح معابر أخري لدخولها، وفرض سيطرته عليها من خلال سلاح العاطفة (الحب) بديلاً لكلّ شيء، وإعادة الدفء إلي كلّ ما ينبض ويتحرك ويتكلم ويتألم، ويكون قادرًا علي قلب معادلات اللغة وتقلباتها السريعة: "لستَ أوّلَ إنسانٍ يفرُّ من الأرضِ لكنّ هروبكَ هو الأخطرُ لأنكَ تحملُ الأرضَ معكَ" ثمة صراع وطيد بين الآلة والإنسان يبرزه الشافعي عبر إحباط الإنسان أمام التكنولوجيا والحداثة، وذوبانه الذي يظل ملتهبًا، ليقضي بالأخير علي جماليات وروحانيات العنصر البشري. إنه لا ينقل هنا صورة وكلام تلك الهزيمة الكبري للمخيلة (الطبيعية)، بل يحاول أن يقلّب كلّ شيء دفعة واحدة إلي هستيريا ونوبات جنون يتعرّض إليه الإنسان، ويصبح عبدًا للفكرة الواحدة "اقتربي، اقتربي أكثر، أشتاقُ جدا إلي نكهةِ الإنسانِ". وأحيانًا تجد أن الإنسان يعود إلي النص بعاطفته الحديدية ومزاجه المتقلب، ليعمم فوضي من نوع آخر إلي النص، ويبدأ بالتخطيط مجددًا لاكتشاف مفردات وصور وألاعيب لغوية رشيقة وحركات بهلوانية، لاستدراج مجازات عفوية وسياقات بيانية تفتح للقارئ مشاهد بصرية متلاحقة، تشبه النظر من شبابيك ذلك القطار السريع وهو يقطع حقول الذري: "معي مهارةُ أعظمِ الحياكين معي خيوطُ الكتَّان كلّها معي ضفائركِ الحريريةُ الناعمةُ/ وسط أكوامِ القشّ والبشرِ لا أزالُ أفتِّش عن إبرةٍ صغيرةٍ لَمْ تصدأ بعد لأتمكَّنَ من رتْقِ روحي الممزَّقةِ" لا تبدو علي نص "غازات ضاحكة" تلك الصبغة السوريالية التي ألصقوها علي خلاصة تدويناته السابقة؛ "بينهما ىَصْدَأُ الوقتُ" وكذلك "وَحْدَهُ يستمعُ إلي كونشيرتو الكيمياء" و"الألوانُ ترتعدُ بشراهَة"، علي الرغم من وضوح العصيان الشعري والغرائبية علي كل الأنساق والرؤي الشعرية، إنما هي مجابهات شاعر يؤمن بالدهشة والتلقائية وروح السخرية من كل شيء حوله، حتي من الحياة نفسها ببساطتها، وقوانينها الممّلة. نص شريف الشافعي قابل دائمًا لأن يكون خريطة أخري لشعرية بدأت، منذ مطلع التسعينات، تفرض هيبتها وطزاجتها؛ "شعرية الحياة" بكل ما تحمل من حيوية ونقاء وجمال.