ودع عالم الفناء إلي عالم البقاء في 17 مارس 2012 فقيد مصر بأقباطها ومسلميها الأنبا شنودة الثالث راعي الكنيسة الأرثوذكسية، رحل كما عاش في وداعه الملائكة وإيمان الأنبياء والقديسين، رحل لكي يبقي مخلدا في ذاكرة الوطن الذي قال عنه في عبارته المأثورة: وطن نعيش فيه ويعيش فينا، وهي عبارة تذكرنا بمقولة الزعيم مصطفي كامل: لولم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا. كان - وما أقسي كلمة كان - وسيبقي رجل المواقف الوطنية والإنسانية والتاريخية، فقد حظر علي الأقباط زيارة القدس حتي تتحرر فلسطين من براثن الصهيونيين قتلة الأنبياء والأطفال والنساء بدم بارد دون وازع من ضمير، وتقديرا لهذا الموقف الذي اتخذه البابا شنودة الثالث كان ياسر عرفات يحرص علي زيارته في المقر الباباوي كلما أتي إلي مصر. ومن مواقفه الوطنية المضيئة أنه لجأ إلي الدير في الصحراء الغربية معلنا غضبته علي سياسة السادات التي أدت إلي اشتعال ثورة الخبز في 18 و19 يناير، وهو موقف لا يتخذه إلا كبار الزعماء التاريخيين، فجمع البابا شنودة الثالث بين الحس الديني والحس الوطني والحس الإنساني والثوري. جمع فقيد مصر العظيم عدة مواهب في شخصيتين، فقد كان منذ شبابه الباكر كاتبا صحفيا مستنيرا، فقد ألف بيتا دراسيا في المدرسة التوفيقية بحي شبرا في القاهرة (1937-1942) واشتركنا في تحرير صفحات مجلتها، وكشفت مقالاته الممهورة باسمه وهو نظير جيد ميخائيل عن موهبته الأدبية وثقافته ولم يسقط القلم من يده حتي لقي ربه، فكان يكتب مقالا بصحيفة الأهرام حينا بعد حين، يشي بغزارة العطاء ونبل الوفاء، وتتسم كتابته بالسهولة والعمق معا، فهو الكاتب الصحفي والمفكر ذو النظرة الثاقبة والمثقف التنويري. رحل ولم يرحل، فسجله الحياتي يدرجه في عداد عظماء القرنين العشرين والواحد وعشرين، فقد تعددت خصائصه الأدبية والفكرية، ومنها شاعريته إذ كان شاعرا مشبوب العاطفة لماحاً ساطع العبارة، وقلما تجتمع هذه المواهب في شخص واحد، مما يدعو المثقفين أقباطا ومسلمين إلي المبادرة بجمع تراثه النثري والشعري، وحث الباحثين وطلاب الدراسات العليا إلي إعداد رسائل جامعية عن هذا التراث، كي يقتدي الجيل الجديد ومن بعده بهذا الرجل العظيم فما أشد حاجتنا في هذه المرحلة التاريخية الحرجة التي تمر بها بلادنا إلي إعلاء شأن القيم الوطنية والإنسانية عن طريق تخليد ذكري الآباء المؤسسين للنهضة ومنهم البابا شنودة الثالث أحد شيوخ العقل المصري والعبقرية المصرية التي تجسدت فيه، ودعاة الوحدة الوطنية، فقد كان صديقا للدكتور أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهري، وكأنهما ولدا لأم وأب واحدين، ولم تشغل مسئوليته الدينية الروحية عن المشاركة في العمل الاجتماعي ابتغاء رفع مكانة مصر ودرء الأخطار التي تحيط بها، واسترداد ما فقدته من أمجاد تاريخية. فنذكر دائما هذا العلم الشامخ، فالذكر للإنسان عمر ثان كما يقول شوقي ونحول أحزاننا لفقده إلي اتخاذه قدوة حسنة ورمزا لحب مصر والتضحية في سبيل نهوضها من عثراتها، رحم الله الأنبا شنودة الثالث وتغمده بواسع فضله جزءا شكورا لرجل العطاء والوفاء.