في جنينة الزهور بحي بولاق أبو العلا، في العاصمة المصرية، القاهرة، ولد رؤوف نظمي ميخائيل لأسرة متوسطة، في 8/4/1932 . وبعد أقل من عشرين سنة أصبح مسئولاً عن منظمة "الحزب الشيوعي المصري" في جامعة إبراهيم (عين شمس الآن). وكان هذا الحزب قد ولد مطلع سنة 1950، وتميز بالسرية التامة، وبرد الاعتبار للنظرية الماركسية اللينينية، في وقت كانت معظم المنظمات الشيوعية تميل إلي إهدار النظرية. حين قامت "حركة الجيش"، في 23 يوليو/تموز 1952، تريث "الحزب الشيوعي المصري"، قليلاً، قبل أن يتهمها بموالاة الأمريكان والسقوط في الفاشية. وثمة ما عزز موقف "الشيوعي المصري" هنا. فقد جاء جمال عبد الناصر علي رأس تلك الحركة، متطلعًا إلي تحديث مصر، بالاعتماد علي الولاياتالمتحدةالأمريكية، علي غرار ما فعل كمال أتاتورك في تركيا. وكانت نسبة غير قليلة من وطنيي العالم لا تزال تعتبر الولاياتالمتحدة "زعيمة العالم الحر"، دون أن تلحظ تلك النسبة تغوُّل الامبريالية الأمريكية، غداة الحرب العالمية الثانية (1939 1945)، وتطلعها إلي وراثة الامبرياليتين، البريطانية والفرنسية، في مستعمراتيهما، بعد أن تراجع موقع هاتين الامبرياليتين، لحساب زميلتهما الأمريكية، التي اندفع موقعها إلي مقدمة " المعسكر الامبريالي". لذا نري عبد الناصر، وكان لا يزال ضمن تلك النسبة من الوطنيين، فحرص علي أن: يرفع منسوب العداء للشيوعية، عما كان عليه تحت الحكم الملكي، حتي أن عبد الناصر استثني المعتقلين الشيوعيين من الإفراج، بعد "حركة الجيش". ولعل من أبرز مؤشرات ذاك العداء، تلك المقدمة التي كتبها عبد الناصر، بنفسه، سنة 1953، لكتاب "حقيقة الشيوعية"، التي اجترّ مؤلفوه ما دأبت علي ترويجه الأوساط الامبريالية عن الشيوعية من صفات جائرة. يعادي العمال بالقتل أولاً، ثم بالتشريعات، وبحظر انعقاد المؤتمر التأسيسي للاتحاد العام لنقابات العمال (سبتمبر/ أيلول 1952)، تمهيدًا لإلغائه. يرفع منسوب العسف، وأطال أمد غياب الديمقراطية. توالت المؤشرات علي قوة النفوذ الأمريكي في "حركة الجيش"، فأولاً ثمة إبلاغ السفارة الأمريكية بساعة الصفر المحددة لتحرك انقلاب الجيش، يوم 23/7/1952، ما يعني أن هذا الإبلاغ لم يكن الاتصال الأول لحركة الجيش بالسفارة الأمريكية؛ وثانيا فإن السفير الأمريكي في مصر، حينذاك، جيفرسون كافري، قدم النصيحة للملك فاروق بعدم التصدي لحركة الجيش، وضرورة تلبية مطالبها، وثالثًا كان كافري، دونًا عن كل سفراء الدول في مصر، ضمن مودعي فاروق، علي شاطئ الاسكندرية (26/7)، مع قادة "حركة الجيش"؛ ورابعًا فإن رجل السفارة الأمريكية في الجيش المصري، البكباشي (المقدم) عبد المنعم أمين، تم فرضه عضوًا في "مجلس قيادة الثورة"، قبل لحظات من ساعة الصفر؛ وخامسًا كان حضور رجال وكالة المخابرات المركزية CIA الأمريكية في مصر ممثلين في رجال "دار أخبار اليوم"، وعلي رأسهم علي ومصطفي أمين، إلي جانب قادة "حركة الجيش"؛ وأخيرًا كان إذعان "مجلس قيادة الثورة" الشهير لطلب كافري بالعدول عن تكليف الفقيه القانوني الشهير، عبد الرزاق السنهوري بخلافة علي ماهر باشا في رئاسة الوزارة المصرية (سبتمبر/أيلول 1952)، لمجرد أن السنهوري كان ضمن من وقّعوا "نداء استوكهولم للسلام"! ما أن اقتنع عبد الناصر، بالملموس، بعقم الاعتماد علي واشنطن حتي كف عن التعويل عليها، واستدار عنها إلي الاتحاد السوفييتي (ربيع 1955)، كما استند إلي جماهير الوطن العربي. ولم تجد قيادة "الشيوعي المصري" بداً من تأييد عبد الناصر، علي النحو المعروف. أي حين غىّر عبد الناصر موقفه هنا، سارع "الشيوعي المصري" إلي تغيير تقييمه لحركة الجيش، بعد أن تحولت إلي ثورة. نعود إلي منظمة "الشيوعي المصري" في جامعة ابراهيم، وقد ضمت كلاً من شكري عازر، وثروت إلياس، ورزق عبد المسيح، وظريف سدرة، ومجدي إلياس، اشتهر رؤوف نظمي باسمه السري "محجوب"، وظل متمسكًا باسمه الأخير دون الأول، اعتزازًا وفخرًا. ألقي القبض علي صاحبنا ضمن أربعة من قادة "المصري" في 27/2/1954، والثلاثة هم: داوود عزيز (عضو السكرتارية المركزية، مسئول الدعاية)، وطوسون كيرلُّس، وعبد العزيز عوض ( عضو الرقابة المركزية). بعد أن كان "محجوب" وقَّع مع سيد قطب، علي اتفاق تكوين جبهة وطنية مع الإخوان المسلمين، ووقعها "محجوب" باسم "همام". في سجن القلعة بالقاهرة تعرُّض الأربعة إلي تعذيب وحشي، وكان الواحد منهم ينكره رفاقه حين يعود به الجلادون، ملفوفًا في بطانية، وقد غرق في مائه، حتي غابت ملامحه. وسرعان ما جاءت ضربة أمنية أوسع وأشمل، طالت معظم كوادر الحزب وأعضائه، في 11/3/1954 . وكان ضمن المعتقلين د. اسماعيل صبري عبد الله (عاصم)، وقد ظنه الأمن الأمين العام للحزب (الرفيق خالد). وكانت تنطبق عليه معظم المواصفات التي وصلت الأمن المصري؛ أستاذ في كلية حقوق جامعة الاسكندرية، ويمتلك سيارة حمراء. وهي مواصفات تنطبق، أيضًا، علي زميل عبد الله في الكلية نفسها، د. فؤاد مرسي (الرفيق خالد)، لكن ماذا نقول في عمي الألوان عند أجهزة الأمن ؟! حكمت المحكمة العسكرية، برئاسة فؤاد الدجوي، علي محجوب بالحكم ثماني سنوات، بالتمام والكمال. وكان الشيوعي يقضي سنة الحكم اثني عشر شهرًا، وليس تسعة أشهر كباقي المتهمين في قضايا القتل، والاختلاس، وما إليه! كما لم يحدث أن تم الإفراج عن شيوعي لحسن سيره وسلوكه! في اليوم التالي للضربة الأمنية الثانية للحزب، استدعي الرئيس جمال عبد الناصر وزير الداخلية، آنذاك، زكريا محيي الدين، وسأله غاضبًا كيف للرئيس أن يستفتي وزارة الداخلية في أمر تعيين د. اسماعيل صبري عبد الله مستشارًا اقتصاديا له، فتوافق الداخلية علي ترشيح رئيس الجمهورية، مؤكدة بأن المرشح خال من شبهة سياسية أو جنائية. ما اضطر محيي الدين إلي الإفراج عن عبد الله، ولكن ليوم واحد، قبل أن يعيده الأمن إلي "السجن الحربي" هذه المرة، وهناك يتعرض عبدالله إلي عذاب الملكين، حتي يقر بأنه "الرفيق خالد"، دون جدوي. ولم يتوقف التعذيب، إلا بعد أن أصدر "الرفيق خالد"، بيانًا حزبيا باسمه السري. وتأكدت أجهزة الأمن من اسلوب "الرفيق خالد" الكتابي! قضي "محجوب" سنواته الثماني، وحين أفرج عنه سنة 1962، لم يفاجأ به زملاؤه يعود، ثانية، ولكن هذه المرة معتقلا، حيث رفض كتابة استنكار لمبادئه الشيوعية. فقضي سنتين أخريين، قبل أن يفرج عنه، في 4/4/1964، مع بقية رفاقه المعتقلين، والمسجونين. إذ اشترط الرئيس السوفييتي، آنذاك، نيكيتا خروشوف، أن يتم الإفراج عن المسجونين والمعتقلين من الشيوعيين، منعًا لإحراجه، إذا ما زار مصر وسجونها تغص بالشيوعيين، الذين أودعوا المعتقلات منذ مطلع سنة 1959، بعد انفجار الخلاف بين الرئيس العراقي، عبد الكريم قاسم والرئيس المصري، جمال عبد الناصر، الذي كان يريد إدخال العراق في وحدة فورية مع مصر وسوريا (الجمهورية العربية المتحدة)، فيما كان قاسم يريدها وحدة كونفدرالية توصل إلي وحدة اندماجية، بعد حين. هذا عدا نحو مئة شيوعي كانوا مسجونين، منذ قيام ثورة يوليو، وبعدها بقليل. زار خروشوف مصر، في الشهر التالي للإفراج عن الشيوعيين المصريين، حيث حضر، مع عبد الناصر والرئيس العراقي عبد السلام عارف، افتتاح مشروع" السد العالي". انطلق "محجوب" إلي جامعة (عين شمس)، لا ينوي علي شيء، في سبيل إنهاء السنة النهائية في كلية الطب (1964 1965). فيما تنوعت الضغوط علي الشيوعيين من أجل حل تنظيماتهم، إلي أن تم حلها، فعلاً، ربيع 1965 . ما أثار غضب الكثير من كوادر الحزب وأعضائه ، وكأني بأجهزة الأمن أرادت وأد هذا الغضب في مهده، فوجهت ضربة إلي كل الغاضبين، وبينهم "محجوب"، وقد شك الأمن في أن بعض الغاضبين يحاولون إحياء الحزب وتشغيله، وكان ذلك في أكتوبر/ تشرين الأول 1966، حين كان عبد الناصر في زيارته للهند. ولم يعرف، حتي الآن، ما إذا كان اليمين الناصري يقف وراء هذه الضربة، فانتهز فرصة غياب عبد الناصر أم أن الأخير تقصَّد توجيه الضربة في غيابه! أُفرج عن الجميع، بعد حفل تأديب وتحقيق، دام بضعة أسابيع، ليخرج "محجوب" إلي وظيفته كطبيب في إحدي المستشفيات الحكومية، براتب شهري قدره 24جنيهًا مصريا، بما يوازي 2,500 جنيه، بأسعار اليوم. داوم "محجوب" علي الكتابة في شهرية "الكاتب" اليسارية القاهرية، التي ترأس تحريرها الشيوعي السابق، أحمد عباس صالح، وكتب في الشهرية نفسها من رفاق "محجوب" كل من : نبيل الهلالي، وأديب ديمتري، ونبيل زكي، وعبد المنعم عبيد، وكاتب هذه السطور. فجأة قرر "محجوب" السفر إلي الجزائر، للعمل هناك، خريف 1969 . وفي أواخر العام نفسه، توجه إلي العاصمة الفرنسية باريس، وقد ضمر في نفسه أمرًا. دق جرس الباب، فنهض محمد أبو ميزر، ليفتح باب شقته الباريسية، ليجد نفسه أمام رجل يحدثه بلهجة صعيدية، فهو ينحدر من المنيا في صعيد مصر، وحين استقر الرجلان في غرفة الضيوف عرض "محجوب" علي مضيفه رغبته في الانضمام إلي "فتح"، استغرب أبو ميزر الطلب، ودهش لأن "محجوب" عرف مكان إقامته السري، فما كان من أبو ميزر إلا أن استحمل ضيفه، بضعة أيام، انتقل خلالها أبو ميزر إلي شقة أخري، بعد أن توجس خيفة. لكن "محجوب" لم يفقد الأمل، فركب طائرة إلي عمان، وهناك ارتبط، بكل سهولة ويسر، بحركة "فتح"، التي كانت تعيش أزهي أيامها، وبعد نحو شهرين من وصول "محجوب" عمان، اندلعت اشتباكات عنيفة بين الجيش الأردني والمقاومة الفلسطينية، في مدن ومخيمات عدة، وإن أمكن التوصل إلي هدنة بين الطرفين، استمرت زهاء أربعة أشهر، لتندلع في يونيو 1970، في "بروفة" أخيرة لمذابح أيلول/سبتمبر 1970 الشهيرة، التي قام فيها "محجوب" بدور استثنائي، جعل منه حديث الأوساط الفلسطينية والأردنية، كما خرج "محجوب" بكتيب عن المذابح، أصدره عن "دار الطليعة" في بيروت، حمل عنوان "الأشرفية". بعد أن جهز النظام الأردني للمذبحة النهائية، بحفظه أسلحة المقاومة في مخازنه، بموافقة قيادة المقاومة، التي أذعنت لطلب السلطة الأردنية بإخراج الفدائيين الفلسطينيين من المدن والقري والمخيمات إلي الأغوار، عراة من أي سند جماهيري، أقدم ذاك النظام علي توجيه ضربته الأخيرة للمقاومة ، في يوليو/ تموز 1971، فيما عرف بمذبحة جرش والأحراش. بذا خرج من تبقي من المقاومة الفلسطينية في الأردن إلي لبنان، عبر سوريا، ومعهم "محجوب"، بعد أن كان انتقل إلي القاهرة ، للتداوي ، في مستشفي هليوبولس بمصر الجديدة ، حين كان يديره الطبيب التقدمي المعروف، د. فتحي خليل. في بيروت عمل "محجوب" في" مركز التخطيط" التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، والذي أغني الساحة الفلسطينية بالتقارير السياسية والأمنية المهمة، وبضمنها التقرير الذي أصدره المركز، في فبراير /شباط 1973، وتنبأ فيه بأن تقدم إسرائيل اغتيال بعض قادة المقاومة الفلسطينية في بيروت، وحين قرأ ياسر عرفات التقرير استمهل بقية قادة المقاومة ، للبحث في الأمر، بعد عودته إلي بيروت، الأمر الذي لم يتم ، ونجحت إسرائيل في اغتيال كل من: كمال عدوان ، كمال ناصر ، ومحمود يوسف النجار (9/4/1973). منذئذ ، تحول مركز التخطيط إلي التبرير للقيادة المتنفذة في كل ما تفعله! في بيروت رشح "محجوب" أحد رفاقه في مصر (اسماعيل عبد الحكم) ليتولي إدارة "دار الفتي العربي"، التي أغنت مكتبة الطفل العربي. التف عدد من المريدين من حول "محجوب"، ومنهم انتقي زوجته رفيقة عمره، ابنة بيروت، مني عبدالله ، التي رافقته بقية حياته، وخرجت معه من بيروت ضمن قوات المقاومة الفلسطينية ، صيف 1982، ولكن إلي مصر، حيث افتتح مكتبًا متواضعًا، تضمَّن مكتبة معتبرة، ضمت كتبًا فلسطينية نادرة. قبل عشر سنوات أقعده المرض، الذي كان استبد به منذ مطلع الخمسينيات، وأخذت صحته في التدهور المطرد، دون أن يفارقه أصدقاؤه ومريدوه، إلي أن وافته المنية، في مستشفي فلسطينبالقاهرة، مساء يوم الجمعة (16/3/2012)، وأقيم القداس علي روحه الطاهرة في كنيسة كليوباترا بمصر الجديدة. وقد حضر القداس جمع غفير من المصريين والفلسطينيين، بعد أن قضي فقيدنا واحدًا وأربعين عامًا في المقاومة الفلسطينية، مقاتلاً، وكاتبًا، وثمانية عشر عامًا مناضلاً في الحركة الشيوعية المصرية