رضا البهات: الحالة الثقافية اليوم لا تحتمل الدسامة ولا الرصانة العالية "شمعة البحر" ترصد أحلام المصريين بعد النكسة كان "يوسف إدريس"يقول: إن الأديب الحقيقي هو الذي ينجح في اختبار الزمن. أري أن مزايا الحداثة تحرر العقل الإبداعي وإطلاق طاقات أكثر من التعبير إلا أنها أي الحداثة ستظل منتجا غير مصري رغم قلة أعماله، إلا أنه يمثل حالة فريدة في جيله،ربما بما يحمله من هموم لقضايا وطنه وإيمانه العميق بشخصيته المصرية التي تمزج السخرية والعبث في مقاومة عوامل الانكسار والردة. روايته الأولي "بشاير اليوسفي" التي صدرت عام 1992، ورصدت الأيام الأخيرة من حرب أكتوبر،خاصة تلك الفترة الحرجة بعد أحداث الثغرة ومحاصرة مدينة السويس وقطع الإمدادات عن الجيش الثالث، وترصد الرواية الجبهة الداخلية من المهجرين وما عانوه من واقع الفقر والجهل والمرض . روايته الثانية "شمعة البحر" التي صدرت عام 2004 ترصد روح المقاومة في الريف المصري بعد هزيمة 1967 حتي رحيل عبد الناصر.وله أيضا مجموعة قصص قصيرة هي "طقوس بشرية"،ويكتب أحيانا بعض المقالات يتابع الواقع المصري قبل وبعد الثورة الشعبية . رضا البهات يعمل طبيبا بشريا في ريف مصر، وعمل صحفيا، وعرف التنظيمات اليسارية السرية والسجون وعرف أيضا الإنسان المصري البسيط مقاتلا علي الجبهة ومقاوما علي أرض الواقع. أنت كاتب علي إدراك كامل بالواقع المعاش،لك تجارب وخبرة معرفية، هل يمكن أن نتعرف علي العوامل التي كونتك كاتبا؟ أنا من أسرة رقيقة الحال، اضطرت للعمل مبكرا، هناك واقعتان ذاتا دلالة في حياتي،الأولي :غياب الأب ما يقرب من عام أثناء حرب اليمن وأوقفت الدولة راتبه، بدعوي أنها لا تعرف إن كانت ستصرف له راتب شهيد أو مفقود أو هارب .كنت في الثانية عشرة من عمري حين دفعت بي أمي إلي العمل لإعانة الأسرة، أمي كانت سيدة مصرية عظيمة تصنع أفضل الأشياء بأقل الإمكانيات، علمتني دروسا عميقة في الكبرياء منذ الطفولة وغرست في الاعتداد بالذات، ربما هذا سر عزلتي عن الحياة الثقافية والبعد عن الغوص في الصراعات الصغيرة من أجل مغانم شخصية، مما يجعلني أكتفي بما أكتب. والواقعة الثانية :هي وفاة الأب وأنا مازلت طالب امتياز في كلية الطب، فعملت بجدية لوقت طويل لإعانة أسرة مكونة من أحد عشر فردا،وربما هذا أكسبني خبرة في الحياة زاد من ثقتي أن العمل وحده هو السبيل الوحيد إلي تحقيق شيء مفيد. حدثني عن روايتك الأولي "بشاير اليوسفي"؟ روايتي الأولي "بشاير اليوسفي" التي تعكس أجواء الحرب، الحقيقة أنني ذهبت للعمل في السويس بعد الحرب مباشرة في مشروع كان يسمي إعادة تعمير مدن القناة، عملت كاتب حسابات الأنفار، مما أكسبني خبرة معاينة مدينة السويس بعد الحرب، لم يكن فيها حجر علي حجر، عانيت كمية الألم الإنساني التي تخلفها الحروب علي البشر، باختصار عرفت ما يسمي بثمن الكبرياء الوطني، ثم انخرطت فيما بعد في التنظيمات اليسارية السرية التي تحلم بتغيير الوطن، دخلت السجن أكثر من مرة بسبب تلك الانتماءات وللأمانة لم أتعرض لأي أهانة أو تعذيب ، لا أنا ولا غيري .كل هذا أكسبني خبرة الاحتكاك بالمثقفين والعمل السياسي السري والعلني، رأيت البشر العاديين عن قرب ورأيت المثقفين والنخبة عن قرب أيضا. في اعتقادي مازالت إلي الآن رواية "بشاير اليوسفي" هي الرواية الوحيدة التي وصفت حرب أكتوبر، خاصة الأيام الأخيرة بعد الاختراق والثغرة ومحاصرة السويس والجيش الثالث. وهي تعني بالأساس أدب المقاومة ليس مجرد تاريخ للحرب .أليس كذلك؟ الإنسان محور هذا الكون، كل ما يتعلق به، إذا كانت المقاومة الإنسانية العالية في الرواية الأولي "بشاير اليوسفي" تعكس روح المصريين في تلك الفترة من الارتباط بالأهداف الوطنية العليا،وشعور قوي بالانتماء نحو هذا البلد، وهي قيمة كانت تعلو علي قيمة المال والامتلاك، وأن ذات روح المقاومة هي الرافع وراء كتابة رواية "شمعة البحر"،خاصة انها تتعامل مع روح المواطن المصري في الريف، هي المقاومة التاريخية للمصريين،عن طريق القناعة والتعرف علي الله والدين في أجمل وأرق صورة وأكثر رفعا للإنسان، وأن روح المصريين في الفترة ما بين 1967 إلي وفاة عبد الناصر،هي الفترة التي تناولتها الرواية. رغبت في إظهار رغبة المصريين في إظهار روح المقاومة في هذه الفترة رغم الهزيمة والاحتلال والفقر المادي، لكن المصريين مازال لديهم الطموح والإيمان بالأحلام الكبيرة ويقاومون بالسخرية والاستغناء والأمل في المستقبل، رغم روح المقاومة في الرواية قصدت أيضا إظهار الجانب السلبي، وهو جانب لا يمكن إغفاله، ولا يلغي قيمة المقاومة في الشخصية المصرية. هذا الجانب تكوّن علي مستوي 7 آلاف عام من مركزية الدولة والعالم، وأنا ممن يؤمنون بأن المقاومة الحقيقية تكمن في إعلان الحقيقة والنظر والتعامل مع نظرة نقدية للواقع، مع رغبة في إضافة شيء جديد إلي الوطن. أعمالك الروائية مهمومة بالواقع المصري، لكن في السنوات الأخيرة ظهرت آراء تحاول عزل الأدب عن الناس والواقع وعزله عن القضايا القومية والإنسانية، ما رأيك في هذا الرأي؟ أري أن مزايا الحداثة تحرر العقل الإبداعي وإطلاق طاقات أكثر من التعبير إلا أنها أي الحداثة - ستظل منتجا غير مصري، فأنا لا أفضّل الميل إلي التهويم في فضاءات غير موجودة أو الاعتماد علي انفصال عن الواقع والحياة وهي صيغة لا تصلح حتي إلي تحرير الذات وقد أخذنا من السياسيين القفز علي الواقع بخطوات واسعة، فارتد الواقع إلي الوراء عدة خطوات، ما جدوي الثقافة والإبداع لا فائدة منها، الحداثة هي إهدار طاقات المبدعين وهي تنفي قيمنا الجمالية وذوقنا الخاص الذي نما من مفردات الواقع، علينا الا نسبق الواقع بعشر خطوات، تكفي خطوة واحدة حتي لا نخسر الواقع والإبداع معا. شخصيات رواياتك صلبة وقوية، تحاول تغيير الواقع، شخصية العريف سيد في رواية «بشاير اليوسفي» وشخصيات الجدة والشيخ جلال في رواية "شمعة البحر"،لماذا التركيز علي هذه الشخصيات تحديدا؟ هذه الشخصيات المصرية تاريخنا،أعتقد ما يظهر علي المصريين من ضعف أو انكسار، ليس إلا صورة خارجية، لا يزال المصري شخصية مقاومة يخمن نتائج ما يحدث في مصر، من حراك عنيف لما نحمله جميعا من عناصر تاريخية، وأري أنهم قادرون علي هضم المتغيرات التي تجري عليهم اليوم وتوظيفها لحساب شخصيتهم التاريخية، فليس من التصور أن تضيع آلاف السنين بفعل مرحلة عابرة من الفوضي والقمع والرجرجة وإعلاء قيمة المال علي قيمة الإنسان. أعمالك تمزج بين الذاكرة والواقع وأبطالك يحاولون تذكر الماضي حتي لو كان ماضيا قريبا، حدث ذلك بشكل أساسي في "بشاير اليوسفي" و"شمعة البحر"،لماذا؟ ربما نقضي وقتا طويلا من عمرنا في إصلاح أخطاء نصفه الأول وتسديد فواتيره، أعتقد أن الاعتصام بالذاكرة هو حضن الإنسان ضد الاقتلاع، رغم ما تنطوي عليه هذه الذاكرة من الألم والسلبيات ولكنها المكون لعظام الإنسان ولحمه. السخرية والمزج بين الفكاهي والعبثي، هما سمتان أساسيتان في روايتك"شمعة البحر"لماذا ؟ أنا أعمل طبيبا في ريف مصر، عرفت أن المصريين يعرفون ما نتصور أنه حقائق، وأنها ضرورات تفرضها عليهم المؤسسات والعبث والازدواجية والتقنية مكونات مهمة في الشخصية المصرية وهي الآن في حاجة إلي رافد قوي من الليبرالية وحرية التعبير بالذات التعبير الاجتماعي لكي تتمكن من الدخول في نسيج الحضارة الحديثة بالتعبير والإعلان عما تخفيه حقا، وألا ينزعج المصري من الجهر من ضعفه وكبوته ونزواته وأخطائه، باعتبارها سمات إنسانية ولا يضع نفسه في موضع المحاكمة طوال الوقت، أود أن أشير إلي مقال مهم نشره "طه حسين" في أواخر الأربعينات بعنوان "حق الخطأ". الرواية الأولي لك قدمها الناقد الكبير "شكري عباد"رحمه الله وكتب عنها الناقدان الراحلان "علي الراعي" و"فاروق عبدالقادر" وآخرون، والرواية الثانية »شمعة البحر» لم يكتب عنها إلا القليل، رغم أنها مهمة، هل هناك أزمة متابعة نقدية للإعمال الجادة؟ الحالة الثقافية اليوم لا تحتمل الدسامة ولا الرصانة العالية، كان "يوسف إدريس "يقول: إن الأديب الحقيقي هو الذي ينجح في اختبار الزمن، وكذلك ما يثار اليوم من ثناء أو تجاهل للعمل أو الهجوم عليه لا يمكن اعتباره إلا معيارا خاصة هذه الفترة والذوق السائد فيها ويبقي دائما لاختبار الزمن. إنني أكتب أولا لكي أتحرر،ولكي أصعد إلي نقطة أعلي في نموي الشخصي، ولا أحب أن أملأ الدنيا صخبا وضجيجا، وهو أمر يفعله آخرون ولا أحبه لنفسي. لك مجموعة قصصية وحيدة هي "طقوس بشرية"، لم تكن بمستوي رواياتك، ربما تعكس حالة أن الرواية هي الأهم أو تعكس ظاهرة حول موت القصة القصيرة ..ما رأيك؟ العالم مليء بزخم التغيرات العنيفة، وهو ليس منطق القصة القصيرة، نري كثيرا ممن يبدعون فنونا آخري مالوا إلي كتابة الرواية، هناك عالم ينهار وآخر ينهض . ومجموعة "طقوس بشرية"كتبتها في أول حياتي، وكنت واقعا في فخ"محمد المخزنجي"،وأنت تعرف أننا نجيء إلي العالم فنجده مهيأ علي معايير نتبعها في البداية، نصحني "إبراهيم أصلان"رحمه الله، بجمع تلك القصص القصيرة ولكنني كنت أشعر دائما أن رغبتي في الكتابة تفوق هذه المساحة المحدودة كمًّا وكيفًا،شجعتني الناقدة "فريدة النقاش"علي كتابة الرواية ومن هنا كانت البداية..