في ظل توقف جميع الأنشطة الثقافية والفنية في معظم قطاعات الدولة ؛ إلا أن القائمين علي الاحتفالية السنوية للمعاقين ذهنيا استطاعوا أن يتحدوا الظروف المحيطة بهم، من خلال فعاليات مهرجان الإبداع الفني السادس للطفل المعاق ذهنياً وذلك خلال الفترة من الثامن إلي العاشر من فبراير الجاري والذي شهدته محافظة أسيوط ذات الحضارة التاريخية العريقة والحارس الأمين لصعيد مصر. وتقيم هذا المهرجان الجمعية النسائية بجامعة أسيوط للتنمية والتي تمثلها الأستاذة الدكتورة علية الحسيني رئيس مجلس إدارة الجمعية ورئيس المهرجان وهذا المهرجان تحت رعاية محافظة أسيوط وجامعة أسيوط من ستة أعوام ماضية، ولكن منذ المهرجان الماضي تم دعمه وتمويله من هيئة الإغاثة الإسلامية عبر العالم والتي تعتبر من كبري المؤسسات الخيرية الدولية في العالم، ويدير المهرجان سفير (الإغاثة الإسلامية عبر العالم) عن منطقة الشرق الأوسط الفنان القدير طارق الدسوقي، كما يستضيف هذا المهرجان كل عام نخبة كبيرة من ألمع نجوم الفن. ستمائة طفل يعد هذا الحدث احتفالية كبري تشهدها جامعة أسيوط وينتظرها الأطفال المعاقون داخل الجمعيات المقيمين بها كل عام، حيث شارك في هذا المهرجان لهذا العام أكثر من ستمائة طفل وطفلة من ذوي الاحتياجات الخاصة والذين حضروا من اثني عشرة محافظة علي مستوي الجمهورية تضمهم أربعين جمعية تعمل جميعها في مجال الإعاقة والغالبية العظمي منها في مجال الإعاقة الذهنية. ويتنافس الأطفال المشاركون في هذا المهرجان في خمسة مجالات إبداعية وهي العزف الفردي- العزف الجماعي- الغناء الفردي- الغناء الجماعي- الأوبريت أو الاستعراض، علي أن يحصل كل من الفائز الأول والثاني والثالث في كل من هذه المجالات علي جوائز المهرجان المتمثلة في الحصان الذهبي-الحصان الفضي -الحصان البرونزي، هذا بالإضافة إلي توزيع دروع المهرجان والتي تحمل شعاري كل من الجمعية النسائية والإغاثة الإسلامية علي كل الجمعيات المشاركة، كما يتم توزيع شهادات تقدير وميداليات تذكارية تحمل شعار المهرجان أيضاً لكل الأطفال الذين شاركوا في هذه الاحتفالية. تكريم الرموز قد بدأت فعاليات المهرجان في اليوم الأول باستقبال الضيوف والجمعيات المشاركة، ثم حفل الافتتاح الذي تم فيه تكريم بعض الرموز العاملة في مجال الإعاقة وبعض الإعلاميين والفنانين، بعد ذلك عُرض أوبريت (رسالة إلي البحر) تأليف وإخراج الفنان الدكتور نبيل أمين وقد شارك بالتمثيل مدير المهرجان النجم طارق الدسوقي مع بعض الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة، وبعدها توالت فقرات المسابقة لليوم الثاني علي التوالي أمام لجنة التحكيم والتي تشكلت من نخبة من النجوم وهم الفنانة النجمة شيرين رئيس لجنة التحكيم وعازفة الفيولا الفنانة رشا يحيي والدكتور نبيل أمين المؤلف والمخرج. بالإضافة للفنان طارق الدسوقي، وفي اليوم الثالث بدأت فعاليات ختام المهرجان والتي شملت إعادة لتقديم أوبريت الافتتاح (رسالة إلي البحر) ثم فقرتان فنيتان مهداتان للمهرجان ؛ الفقرة الأولي كانت لعازفة الفيولا رشا يحيي عضو لجنة التحكيم والتي قدمت فاصلا موسيقيا مكونا من ثلاث مقطوعات هي "رقصة صعيدي" للدكتور جمال سلامة و"الضوء الشارد" للأستاذ ياسر عبدالرحمن، واختتمت فقرتها بعزف أغنية "يا أغلي اسم في الوجود" لحن الموسيقار محمد الموجي والتي تفاعل معها جميع الحضور والأطفال المشاركون، بعد ذلك قدمت الفقرة الثانية وهي فقرة غنائية للشابين عدنان وعبد الجواد واللذان تغنيا بأغنية "يا بلادي يا بلادي" ألحان عزيز الشافعي ثم اختتم المهرجان بتكريم لأعضاء لجنة التحكيم ولكل من ساهم أو شارك من العاملين والمشتغلين من وراء الستار لإتمام نجاح هذا المهرجان، وتلاها مباشرة تسليم الدروع والميداليات لكل الأطفال والجمعيات التي شاركت في المهرجان، ثم إعلان أسماء الفائزين وتسليم جوائز المهرجان. مهرجان عربي كان من المفترض أن يتم تحويل هذه الاحتفالية الكبري هذا العام إلي مهرجان عربي دولي، هو الأول من نوعه في منطقة الشرق الأوسط بمشاركة الكثير من الدول العربية الشقيقة، وتحت رعاية جامعة الدول العربية، ولكن حال دون ذلك ثورات الربيع العربي والتي اندلعت في الكثير من البلدان العربية ومن ضمنها مصر، ولكن مازالت الفكرة قائمة ربما في العام القادم مع استقرار المنطقة العربية، لتشهد مصر بمدينتها العريقة أسيوط هذه الاحتفالية الكبري لنتشرف بوجود مثل هذا المهرجان علي أرض مصر المباركة التي تحتفي بأبنائها وأبناء الأمة العربية وترعاهم دائماً علي مر العصور فهي قلب ووجدان الوطن العربي، وليس بالغريب أن تكون مصر كعادتها هي الأم لمولد حدث مهم مثل هذا المهرجان، الذي يجب أن يسترعي انتباهنا جميعاً وأن نصفق لكل القائمين عليه وأن ندعمهم ونشاركهم هذا الاحتفاء، وخاصة أن أعضاء لجنة التحكيم والقائمين علي هذا المهرجان متطوعون بدافع الحب والواجب الوطني، وإيماناً منهم بمساندة هذه الفئة ودعمها نفسياً ومعنوياً، كما يؤكدوا ارتباطهم الوجداني والعلاقة الودية والحميمية التي تربط بينهم كأعضاء لجنة تحكيم وبين الأطفال الذين شاركوا في الأعوام الماضية. ويوجد بعض الفقرات المتميزة والتي تمول من الجمعيات المشاركة والتي تلقي بعض الدعم وتتوافر لها الإمكانيات لتقديم فنونها بشكل مبهر، ولكن للأسف الشديد تواجه بعض الجمعيات الأخري صعوبات مادية تحول دون ذلك، حيث لم تتلقي دعما ماديا يكفي لدعم فقرات المسابقة، ورغم عدم توافر الإمكانيات المادية لدي تلك الجمعيات، إلا أنها تتحدي الظروف المعيقة ويشاركوا بالأطفال أنفسهم حرصاً منهم علي المشاركة في هذا المهرجان لإدراكهم ووعيهم بمدي تأثيره علي الأطفال نفسياً وصحياً. ونتساءل أين المؤسسات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان وغيرها؟ أين هم من دعم تلك الجمعيات؟ فقرات فنية أعتقد أنه لابد من إعادة النظر من تلك المؤسسات الحقوقية في توجيه اهتمامهم لصميم عملهم لتلك الجمعيات وغيرها المعنيين بها وبشئونها، وان تعود هذه المنظمات المعنية بحقوق الإنسان لدورها الأساسي في معالجة القضايا المجتمعية بدلاً من أن ينصب عملها باللهو والعبث في الشئون السياسية تاركة دورها الذي أنشئت من أجله! كما لوحظ من خلال فقرات المسابقة أن الأوبريتات والمسرحيات التي قدمت كانت مغلفة بطابع مأساوي سودوي متأثر بالأحداث الدموية الجارية والتي نشاهد عبر شاشات القنوات التليفزيونية والفضائية المختلفة ؛ ولذا فقد صدرت ضمن توصيات لجنة التحكيم التنبيه علي الجمعيات بأن تكون كلمات الأغاني وأفكار الأعمال المسرحية والاستعراضية مبهجة وهادفة وتعليمية، وأيضاً فتح سوق لترويج الأعمال الفنية واليدوية التي يقوم بها الأطفال المعاقين في العام المقبل منذ افتتاح وحتي ختام المهرجان، علي أن تكون المكاسب المادية لصالح هذه الجمعيات. ورغم وجود الإعلاميين المتخصصين في هذا المهرجان إلا انه لم يغطي إعلامياً بالشكل الكافي ولم تسلط عليه الأضواء كما ينبغي كغيره من المهرجانات الفنية الأخري كمهرجان الموسيقي العربية أو المهرجانات السينمائية وغيرها رغم انه ليس اقل أهمية بل علي العكس فهذا المهرجان له دور أساسي وفعال في المجتمع فهو مساعدة إنسانية لعدد كبير ممن لم يلقوا حظهم قدريا في الدنيا فيجب علينا تدعيم وترسيخ حقوق هؤلاء، فهم لهم الحق كل الحق في الحصول علي مساندة اقتصادية واجتماعية، وأيضاً مساعدتهم علي الاندماج في المجتمع، كما يجب مراعاتهم في الكود البنائي للمحافظات بعمل أرصفة ومطالع ومنزلقات في المرافق العامة للدولة بل وفي الأبنية والمحال التجارية لتخفيف العبء عليهم، وإزالة جميع العوائق التي تحول دون استخدامهم للمرافق والخدمات العامة وتوفير جميع خدمات التأهيل لكل الذين في حاجة إليها. وينبغي علينا عمل حملات للتوعية بكيفية التعامل مع هؤلاء الأطفال وحسن معاملتهم وإعطاء جميع حقوقهم التربوية والنفسية والاجتماعية، وتفعيلهم داخل المجتمع في حدود القدرة الجسدية والذهنية التي وهبهم الله إياها، فالكثير منهم يحمل قدرات وطاقات هائلة قد تفوق في بعض الأحيان الأصحاء منا وثبت ذلك من خلال الفقرات المتميزة التي قدمت في المهرجان، فهذه الفئة غير القليلة لديها من العزيمة والإصرار علي إثبات الذات والإحساس بأنهم أفراد طبيعيين لهم دور فعال في المجتمع لا يقل عن دور أي فرد سوي في المجتمع، بالإضافة لذلك يجب علينا وأد لكل العادات البالية التي تسيطر علي أفكار البعض في مجتمعنا من الإحساس بالنقص والازدراء من ابنها المعاق والتي تريد إخفاءه عن الأعين مما يصيبه بالعديد من المشكلات المعنوية والنفسية الشديدة والتي ربما يكون لها أثر سلبي علي تحسن وتقدم حالتهم الصحية. وبما أن الفن يعمل دائماً علي تقوية المهارات الحسية والأدائية وينمي الوجدان فقد ثبت أن تدريب هؤلاء الأطفال علي الفنون المختلفة من خلال تلك الأنشطة والفقرات أنها عملت علي تنمية قدراتهم البصرية والسمعية والحركية بشكل يفوق دروس التخاطب أو حتي جلسات العلاج الطبيعي التي يتلقونها وذلك بشهادة كل المدربين والمشرفين من الجمعيات المختلفة، هذا بالإضافة إلي أن هذا المهرجان يعطي الفرصة لهؤلاء الأطفال أن يعبروا عن ذاتهم وأن يندمجوا مع الأسوياء ويشعروا بالاندماج في المجتمع الذين هم جزء أساسي منه. كما أن قدرة هؤلاء الأطفال علي الفعل والإبداع وتقديم فنون مبهرة تحظي بإعجاب وتصفيق المشاهدين يكون له بالغ الأثر في نفوسهم ويعمل علي إعادة الثقة فيما بينهم وبين مجتمعهم وأنهم غير مهمشين، فهم في حقيقة الأمر عدد كبير وفي تزايد مستمر فذوي الاحتياجات الخاصة في مصر يقترب عددهم من حوالي عشرة ملايين منهم ثلاثة ملايين تقريباً إعاقة ذهنية، لذا فعلينا أن ندعم فكرة العلاج بالفن في صوره المختلفة الرسم والموسيقي والأداء التمثيلي والاستعراضي والتي تعتبر من أهم الآليات التي يتم الاعتماد عليها كوسيلة تكميلية مع الوسائل الكيميائية والسلوكية، والتي تعتبر إحدي الطرق الفعالة في علاج المعاقين لسهولة التعبير بالفن أكثر من التعبير اللفظي وهو ما يعد فرصة كبيرة للابتكار والإبداع والسعي نحو الاتقان والتي تمنح هؤلاء الأفراد خبرة عظيمة وفرصة للتعبير الصريح عن الذات وإسقاط ما في النفس من صراعات داخلية وأيضاً تعمل علي زيادة التواصل المجتمعي خاصة عندما يستطيع أن يعبر بيده عما في عقله وبالتالي يجب اتباع العلاج بالفنون المختلفة في شتي المؤسسات العلاجية كعامل مساعد أو رئيسي في العملية العلاجية للمعاقين، والذين يمثلو عشرة بالمائة من سكان العالم وترتفع هذه النسبة في العالم العربي إلي اثني عشر بالمائة بناء علي الإحصاءات الصادرة عن الأممالمتحدة والمنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة. وبمتابعتي لهذا المهرجان وانبهاري بإبداع متحدي الإعاقة بأدائهم القوي والمبهر وبطاقاتهم الهائلة. فلماذا لا تستفيد وزارة الثقافة من تلك الطاقات الإبداعية من خلال الدعم المادي والمعنوي لهؤلاء؟ وأتوجه بنداء للمسئولين بضرورة توفير مسرح من مسارح الدولة حتي يتاح لتلك المواهب أن يقدموا فنهم وإبداعهم طيلة العام ولم يقتصر سوي علي ثلاثة أيام فقط علي مسرح جامعة أسيوط العريقة، والتي لها منا كل الاحترام والتقدير لدعمها ووقوفها بجانب متحدي الإعاقة في مصر، والذي يعد سبقًا من هذه الجامعة المرموقة التي تبنت هذه الفكرة العظيمة لهؤلاء الأطفال .