هي جبهة تم تشكيلها من جميع النقابات الفنية والإعلامية والأدبية للدفاع عن حرية الفكر والرأي والإبداع، فكيف يمكن لرجل دين مستنير أن يقرأ بيان الجبهة؟ وماذا لو عقدنا مقارنة بينه وبين وثيقة الأزهر التي صدرت قبله بأيام.. وأشار إليها بيان الجبهة واعتبرها أرضية مشتركة للمجتمع المصري في نظرته للإبداع والمبدعين ويمكن خلالها الانطلاق نحو مجتمع أكثر قدرة علي استثمار طاقاته الإبداعية بدلا من الدعاوي التي تطالب بإهمالها وربما وأدها باسم الدين. ومن هنا نكتشف بكل سهولة ولأول وهلة أن قداسة الدين لا تتعارض أبدًا.. مع حق المبدع المفكر في الإعلان عن رأيه والتعبير عنه كما يريد وأن الأزمة مفتعلة والصدام مختلق. يطالب بيان جبهة الإبداع بالحفاظ علي التراث المصري وتاريخه وإنتاجه المادي والمعنوي باعتباره جزءًا لا يتجزأ من الوطن وهل هناك مسلم عاقل ورشيد مهما كانت درجة تشدده.. يعارض المحافظة علي ماضي وتاريخ بلاده والمخابرات الأمريكية عندما أرادت إطلاق مصطلح يخص الإسلام المتشدد وصفته ب «الأصولية» والكلمة في أبسط معناها العودة إلي الأصول أو الجذور. ثم تطالب الجبهة بوجوب حماية حرية البحث العلمي والتعبير والإبداع وحق المعرفة والكشف عن المعلومات وتداولها حقوق أصيلة كفلتها الدساتير والاتفاقيات الدولية.. وبعيدا عن التيارات التي يقال إنها دينية.. يعرف الجميع أن الكلمة الأولي في التراث الكريم التي نزلت علي الصادق الأمين صلي الله عليه وسلم هي «اقرأ».. ومعظم الآيات تتحدث عن العلم والذين يعلمون وكيف لا يمكن بحال مساواتهم بالذين لا يعلمون كما توحي بالتفكير والتدبر. حرية التعبير وقد جاءت وثيقة الأزهر الشريف في بندها الثاني حول حرية الرأي والتعبير مطابقة إلي حد كبير مع بيان الجبهة، حيث قالت: حرية الرأي هي أم الحريات كلها وتتجلي في التعبير عن الرأي تعبيرا حرًا بمختلف وسائل التعبير من كتابة وخطابة وإنتاج فني وتواصل رقمي كما تشمل حرية الصحافة والإعلام المسموع والمرئي والرقمي وحرية الحصول علي المعلومات اللازمة لإبداء الرأي ولابد أن تكون مكفولة بالدستور لتسمو علي القوانين العادية القابلة للتغيير وحرية الرأي والتعبير هي المظهر الحقيقي للديمقراطية وينادون بتنشئة الأجيال الجديدة وتربيتها علي ثقافة الحرية وحق الاختلاف واحترام الآخرين، ويجب علي العاملين في مجال الخطاب الديني والثقافي والسياسي في وسائل الإعلام مراعاة هذا البعد المهم في ممارساتهم وتوخي الحكمة في تكوين رأي عام يتسم بالتسامح وسعة الأفق ويحتكم للحوار ونبذ التعصب وينبغي لتحقيق ذلك استحضار التقاليد الحضارية للفكر الإسلامي السمح الذي كان يقول فيه أكابر أئمة الاجتهاد: رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، ومن ثم فلا سبيل لتحصين الرأي سوي مقارعة الحجة بالحجة طبقًا لآداب الحوار وما استقرت عليه الأعراف في المجتمعات الراقية. أجناس الأدب وفي البند الرابع تتوقف وثيقة الأزهر تفصيلا أمام حرية الإبداع الأدبي والفني ويتمثل ذلك في أجناس الأدب المختلفة من شعر غنائي ودرامي وسرد قصصي وروائي ومسرح وسير ذاتية وفنون بصرية تشكيلية وفنون سينمائية وتليفزيونية وموسيقية وأشكال أخري مستحدثة في كل هذه الفروع. وكلها تستهدف تنمية الوعي بالواقع وتنشيط الخيال وترقية الإحساس بالحياة والمجتمع.. كما تقوم بنقد المجتمع أحيانا والاستشراف لما هو أرقي وأفضل منه وكلها وظائف سامية تؤدي في حقيقة الأمر إلي إثراء اللغة العربية والثقافة وتنمية الفكر مع مراعاة القيم الدينية العليا والفضائل الأخلاقية. وأتوقف هنا أمام هذه الكلمات الأخيرة والتي تؤكد علي مراعاة القيم الدينية العليا والفضائل الأخلاقية.. ولا أري أن اختزال الحرية في مشاهد الجنس والشذوذ والمخدرات والعري المجاني.. يسيء إلي الحرية.. ويحولها إلي فعل فاضح والرد علي أن الدراما تقوم أساسا علي صراع الخير والشر.. هو قول صحيح تماما ولا يمكن تقديم الملائكة فقط علي الشاشة، لأن الدنيا فيها الأشرار والأخيار.. لكن المسألة تنحصر فقط في كيفية تقديم الشرير والمنحرف والفاسد.. والفن ليس مهمته نقل الواقع، لكن يحاكي الواقع ويخلق لنا ما يسمي بالواقع الافتراضي أو التخيلي أو الجديد.. وسلاحه في ذلك أن يكشف لنا الشر لكي نتمسك بالخير.. وأن يجسد لنا الباطل لكي نسعي إلي الحق. الحرية المغلفة ومثلث الفن والإبداع بجميع أنواعه يقوم علي الحب والخير والجمال.. وأغلب من ينادي بالحرية المتغلفة أو بمعني أدق بالتحرر ليس لديه وجهة نظر فكرية يحتمي بها.. وبضاعته تهدف إلي إثارة الغرائز بهدف الربح فقط علي حساب قيم وعادات المجتمع وللأسف الجمهور بدأ ينصرف عن هذه النوعية لأن من يطلب الإباحية سيجدها متوفرة إلي أقصي درجة علي الفضائيات الأوروبية وعلي الإنترنت وبالتالي لن يسعي خلف مشاهد معدودة. وبعيدا عن كل هذا.. يظل السؤال الوحيد والفريد لمن يختلط عنده الفهم بين حرية للانفلات وحرية مسئولة ضميره هو الرقيب الأول والفاعل حتي وإن تم إلغاء الرقابة وشتان بين فكر يريد صاحبه توصيله والتعبير بوسائل يبتكرها.. وبين أجوف يري في الفن مجرد وسيلة للربح شأنه في ذلك شأن صاحب الملهي ومن تتاجر بجسدها ومروج المخدرات. وهكذا نري بالقراءة الرشيدة بين بيان جبهة الإبداع ووثيقة الأزهر تطابقا كبيرا.. يؤكد أن الدين الحقيقي المعتدل الوسطي ويمثله الأزهر الشريف والفن الخالص الملتزم الذي يعبر عن كل صاحب موهبة ورؤية إبداعية.. كلاهما يمضي في نفس الطريق ويسعي إلي نفس الغاية.. وإن اختلفت الطرق.